النظرية العامة للمنظمات الدولية
الباب الاول: نشأة المنظمات الدولية وشخصيتها القانونية
الفصل الأول: نشأة المنظمات الدولية
منذ أن بدأت فكرة الدولة بمفهومها الحديث تظهر وتستقر، والحرب بين هذه الدول سجال، إذ سعت كل منها ومنذ البداية الى توسيع حدودها على حساب الأخرى، او اكتساب مناطق نفوذ ومستعمرات في داخل القارة أو في القارات الأخرى.
والملاحظ ان التطور العلمي الذي شمل مختلف الميادين ومنها الميدان العسكري، أدى الى ازدياد خطر الحرب حيث اتسع نطاقها ليشمل مختلف بقاع العالم، الأمر الذي بدأ ينذر بمزيد من الخسائر البشرية والاقتصادية.
من هنا بدا الدول بمختلف قاراتها تسعى الى ايجاد سبل للتفاهم الودي لإيجاد حلول مقبولة لما بينها من تنافس وصراع توفر عليها ويلات الحرب وتحفظ بينها نوعاً من التوازن المقبول.
وكوسيلة لتحقيق هذه الغاية، تبنت الدول عدة أساليب ومن بينها:-
أولا: اللجوء الى عقد المؤتمرات الدولية:
الملاحظ ان الدول ولا سيما الاوربية منها لجأت وكوسيلة أولى لعقد المؤتمرات الدولية لحل منازعاتها، ربما لأن هذه المؤتمرات كانت وسيلة للتفاوض المباشر ومواجهة بعضها ببعض.
واتسع نطاق عقد هذه المؤتمرات بعد انتصار القوى العظمى آنذاك (إنجلترا-بروسيا-النمسا-روسيا) على نابليون عام 1815م. حيث عقد مؤتمر وستفاليا سنة 1648 ومؤتمر شاتيون سنة 1814 ومؤتمر فينا سنة 1815، ومؤتمر صلح باريس سنة 1856، حيث اثبتت هذه المؤتمرات جدواها، الامر الذي أضفى عليها خلال القرن التاسع عشر طابعاً شبه دوري فيما يعرف بالوفاق الاوربي (Concert European).
وكان هذا النظام يهدف الى الابقاء على الوضع الراهن في اوروبا، اعتماداً على مبدأ الشرعية وتوازن القوى مع احتفاظ كل دولة بسيادتها الكاملة، مع ملاحظة ان هذا النظام لم يلزم الدول بالتعهد رسمياً بعدم اللجوء الى استخدام القوة او بضمان سلامة اراضي كل منها.
ثانياً: التحكيم الدولي:
يعد التحكيم واحداً من أهم وسائل تسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية، وقد كان لنجاح التحكيم في قضية الألباما سنة 1872 عاملاً مشجعاً للاتجاه نحو هذا الاسلوب في تسوية المنازعات.
والجدير بالذكر ان مؤتمري لاهاي لسنة (1899 و 1907) كانا قد أقرى مبدأ التحكيم الاجباري ووضعا قواعد واجراءات التحكيم الا انهما فشلا في انشاء محكمة تنظر في منازعات الدول.
والواقع ان محكمة التحكيم الدائمة التي تم انشاؤها في سنة 1899 لم تكن الا مجرد قائمة بأسماء القضاة الذين يمكن اختيارهم كمحكمين متى اتفقت الدول أطراف النزاع على اللجوء اليها.
ولا بد من التذكير بان عقد متمري لاهاي (1899-1907) كان له دلالته الخاصة حيث عقد هذين المؤتمرين في فترات السلم، على عكس ما كان سائداً في عقد المؤتمرات الدولية، حيث لم تكن هذه المؤتمرات تعقد الا في اعقاب الحروب، لتسوية الاثار المترتبة عليها.
كما ضمّ هذين المؤتمرين دولاً أخرى غير اوروبية الامر الذي كان يعني اتساع قاعدة المساهمة في تلك المؤتمرات.
ثالثاً: اللجان الدولية:
يعد انشاء هذه اللجان خطوة مهمة في طريق انشاء المنظمات الدولية، ويذهب جانب من الفقه، الى ان هذه اللجان لم تنشأ الا كوسيلة لتعزيز وضمان حرية الملاحة في بعض الانهار، مثل لجنة الرون التي أنشأت سنة 1814، ولجنة الدانوب التي أنشأت سنة 1856.
ونتيجة لنجاح اللجنتين المذكورتين في أداء المهام المسندة اليهما، فقد امتد نشاطها ليشمل ميادين أخرى، كميدان الصحة، فقد انشئت لجان صحية في الاقاليم المستعمرة، كلجنة قسطنطينية وبوخارست، كما أنشأت لجان مالية مهمتها التوثيق والتقريب في وجهات نظر الدول الدائنة والمدينة، كوسيلة للوصول الى حل وسط يرضي الطرفين، ومن بين هذه اللجان لجنة الدين المصري سنو 1878، ولجنة الدين اليوناني سنة 1897، ولجنة الدين العثماني سنة 1898.
رابعاً: الاتحادات الدولية الادارية:
الملاحظ ان انشاء هذه الاتحادات لم يكن الا وسيلة لتنظيم بعض المرافق ذات الصلة بالمصالح الدولية المشتركة.
ومن بين اهم الاتحادات التي تم انشاؤها، اتحاد التلغراف العالمي الذي أنشئ بمقتضى اتفاقية باريس لسنة 1865، واتحاد البريد العالمي الذي أنشئ باتفاقية برلين لسنة 1874، والاتحاد الدولي للمقاييس والموازين عام 1875، واتحاد حماية الملكية الصناعية عام 1882, والاتحاد الدولي لنشر التعريفة الجمركية لعام 1890، واتحاد حماية الملكية الادبية المنشئ بموجب اتفاقية برلين لسنة 1886.
والواقع ان كل وسائل التعاون الدولي آنفة الذكر لا يمكن وصفها بالمنظمات الدولية، كونها لا تتخذ طابع الديمومة والاستقرار في عملها كما لا يحكم نشاطها دستور نافذ في مواجهة الدول المنضمة إليها، هذه اضافة الى ان مقرراتها لم تكن لتلزم الدول الاعضاء الا بإرادتها.
الا ان ذلك لا يعني بحال من الاحوال عدم جدواها، فتلك المحاولات حققت خطوات متقدمة في مجال التنظيم الدولي، الامر الذي مهد لقيام اول تنظيم دولي في اعقاب الحرب العالمية الاولى (عصبة الامم).
خامساً: عصبة الامم:
شعر العالم بعد نهاية الحرب العالمية الاولى التي راح ضحيتها قرابة الثمان ملايين من البشر ان الوقت قد حان لوضع حد لهذه المجازر البشرية من خلال اقامة هيئة دولية دائمة تعمل على حفظ السلم والأمن الدوليين.
وتبنت تلك الفكر كلاً من فرنسا وإنجلترا، الا ان كل منهما رسم لهذه الهيئة صورة مختلفة، فقد ذهب الفرنسيون الى ان هذه الهيئة عبارة عن عصبة من الحلفاء تجتمع فيها موارد الدول الاعضاء وجيوشها.
أما الإنجليز فدعوا الى انشاء هيئة دائمة تنعقد بصورة دورية، وتأخذ هذه الهيئة على عاتقها مسؤولية القضاء على أي نشاط حربي من شأنه تهديد السلم والأمن الدوليين.
وجاء الرئيس الاميركي (ولسن) فاقتبس اقتراحه في انشاء عصبة الامم من وجهة النظر الانجليزية، فقد دعا في شروطه الاربعة الى انشاء عصبة أمم يكون الغرض منها تحقيق التعاون العالمي وضمان تنفيذ الالتزامات الدولية.
والجدير بالذكر ان دعاة انشاء العصبة كنوا قد انقسموا على انفسهم، بشأن تحديد العضوية فيها، فقد دعت كل من بريطانيا والمانيا الى فتح باب العضوية لجميع الدول ذات السيادة متى ما أبدت رغبتها في الانضمام للعصبة، سواء اكانت الدول المنتصرة أو المنهزمة في الحرب أو من دول الحياد.
أما فرنسا فقد عارضت هذا الاتجاه ودعت الى قصر العضوية على الدول المنتصرة في الحرب، ودول الحياد حسب، وقدر لهذا الاتجاه ان يسود، وقد ضمت العصبة في عضويتها خمس واربعون دولة ذات سيادة مثلت الدول المنتصرة في الحرب وبعض دول الحياد.
وبإلقاء نظرة فاحصة على العضوية في العصبة يبدو جلياً ان دعاة انشاؤها، كانوا قد خرجوا عن الغاية من تأسيسها (المحافظة على السلم والأمن الدوليين) حيث قصرت العضوية فيها على الدول المنتصرة في الحرب العالمية الاولى ودول الحياد دون الدول المنهزمة، ناهيك عن نصوص العصبة الاخرى التي منحت الدول المنتصرة في الحرب حقوقاً وصلاحيات خاصة لا تتمتع بها الدول الاعضاء الاخرى والتي سنأتي على بيانها لاحقاً.
المبادئ التي تقوم عليها العصبة:
لم يأت تأسيس عصبة الامم الا كرد فعل على الآثار المدمرة التي خلفتها الحرب العالمية الاولى.
فقد احس العالم انه بحاجة الى تنظيم دولي دائم يعمل على فض المنازعات بالطرق السلمية ويحافظ على سيادة الدول بعيداً عن استخدام القوة والعنف، وجاء التأكيد على هذه الاهداف في العديد من النصوص.
من بينها المادة العاشرة من العهد، التي التزمت الدول بالتعهد باحترام الاستقلال السياسي والسيادة الاقليمية لكل دولة.
وتأكيداً لهذا الالتزام اشارت المادة الحادية عشرة لمبدأ المسؤولية الجماعية لدول العصبة ازاء كل ما يقع في المجتمع الدولي من حرب أو تهديد بالحرب.
ولكي تنأ العصبة بالعالم عن الحرب وآثارها، الزمت الدول الاعضاء بالتعهد بعرض نزاعاتها التي من شأنها تهديد السلم والأمن الدوليين على التحكيم او التسوية القضائية او احالتها على مجلس العصبة.
كما الزمت الدول الاعضاء بعدم اثارة الحرب قبل انقضاء ثلاثة اشهر على صدور احكام في هذه المنازعات من لجان التحكيم او لجان التسوية القضائية او من مجلس العصبة.
ولإضفاء الجدية على التعهدات التي تلتزم بها الدول الاعضاء في العصبة، فقد نصت المادة السادسة عشرة على انه (إذا التجأت احدى الدول الاعضاء في العصبة الى الحرب متجاهلة بذلك تعهداتها تحت المواد 14،13،12 من عهد العصبة، فان هذا العمل العدواني كان ينظر اليه على انه موجه ضد كل الدول الاعضاء في العصبة بلا استثناء).
وقد خول العهد، الدول الاعضاء ازاء ذلك صلاحية قطع العلاقات المالية والتجارية والاقتصادية، كما خول مجلس العصبة حق اقتراح ما يراه فعالاً من التدابير العسكرية البرية والبحرية والجوية التي من شأنها رد العدوان.
وكإجراء وقائي اخير نص العهد على انهاء عضوية أي دولة تثبت عليها مسؤولية الاخلال بالتزاماتها نحو العصبة، وتنهى هذه العضوية بقرار يصدر عن مجلس العصبة.
المهام التي اضطلعت بها العصبة:
خولت العصبة بموجب العهد، العديد من المهام والوظائف البالغة الاهمية، ومن بين أهمها:-
1- فض المنازعات بالطرق السلمية: تعد هذه الوظيفة من اهم الاختصاصات التي تمتعت بها العصبة، بل ان هذه المهمة هي المحرك الحقيقي لتأسيس هذا الكيان الدولي، فقد ورد في ديباجة العهد: (ان الاطراف السامية، بقصد تنمية التعاون بين الدول وتحقيق السلام والأمن، وان تقبل بعض الالتزامات التي تقضي بعدم الالتجاء الى الحرب...).
وتحقيقاً لهذه الغاية الزمت المواد (13-14-15) من العهد، سائر الدول الاعضاء في العصبة بعرض نزاعاتها التي من شأنها قطع العلاقات الدبلوماسية، على التحكيم او القضاء او مجلس العصبة، وحظر عليها اللجوء الى الحرب الا بعد استنفاذ كل الوسائل السلمية.
واذا ما وقعت الحرب فعلاً فعلى المجلس الاجتماع فوراً بجلسة طارئة تعقد بناء على دعوة الامين العام، لاتخاذ الاجراءات اللازمة التي من شأنها حل النزاع او وقف الحرب بصورة مؤقتة لحين حسم النزاع بصورة نهائية.
2- ضمان سلامة وامن اقاليم الدول الاعضاء في العصبة: الزمت المادة العاشرة من العصبة كل الدول الاعضاء في العصبة بضمان امن وسلامة اقاليم الدول الاعضاء.
وتحقيقاً لهذه الغاية نصت المادة الحادية عشرة من العهد على مبدا المسؤولية الجماعية لدول العصبة ازاء أي اعتداء او تهديد بالاعتداء يقع من دولة على دولة عضو في العصبة، سواءً آثر هذا الاعتداء او التهديد بطريقة مباشرة على أمن الدولة أم لم يؤثر. وفي مثل هذه الاحوال يتعين على الامين العام دعوة المجلس الى الانعقاد بجلسة طارئة للاتفاق على التدابير الدولية الجماعية التي يتوجب اتخاذها لمواجهة هذه التهديدات.
3- المحافظة على التوازن في التسلح: اشارت المادة الثامنة من العهد لمبدأ يجدر الوقوف عنده لو وفر العهد له الضمانات التي من شأنها نقله الى حيز الواقع.
فقد الزمت المادة الثامنة من العهد كل الدول الاعضاء في العصبة، التعهد بأن لا تحوز من الاسلحة الا القدر الذي يضمن لها امنها وسلامها ووحدة اراضيها.
على ان يقوم المجلس بإعداد برنامج للتسلح بالنسبة لكل دولة في ضوء ظروفها السياسية والاقتصادية والجغرافية، واوضاعها الداخلية والخارجية.
وتعرض هذه البرامج على الدول الاعضاء ولا تكون ملزمة لها الا اذا اقرتها، فاذا اقرتها ليس لها تجاوزها الا بإذن المجلس.
وضماناً لالتزام الدول الاعضاء ببرنامج التسلح، رأى واضعوا العهد الاكتفاء بتبادل التصريحات بين هذه الدول والعصبة بشأن صناعتها وحيازتها والجهات التي تتعامل بها.
تقييم عصبة الامم:
مثلت عصبة الامم النواة الحقيقية الاولى للمنظمات الدولية بمفهومها الصحيح، ونجحت هذه المنظمة ولو بصورة نسبية في تحقيق بعض الاهداف التي جاء النص عليها في العهد.
فقد نجحت في فض النزاع (اللتواني-البولندي) على مدينة (فيلنا) (Vilna) سنة 1920. والنزاع (الفنلندي-السويدي) على جزر (آلاند) (Aland) سنة 1921، والنزاع (الالماني-البولندي) على حدود (سيليزيا العليا) سنة 1921، والنزاع (اليوناني-البلغاري) على الحدود سنة 1925، والنزاع بين (كولومبيا-بيرو) عى اقليم (ليتيشيا) (Leticia).
وانعكاساً لهذه النجاحات ازداد الاقبال على الانضمام للعصبة ففي سنة 1920 بلغ عدد الدول الاعضاء في العصبة اثنتين واربعين دولة، وفي سنة 1921 انضمت اليها ثلاث دولة من دول البلطيق، وفي سنة 1922 انضمت اليها المجر، وفي سنة 1923 انضمت اليها ايرلندا الحرة والحبشة، وفي سنة 1923 انضمت اليها المانيا، وفي سنة 1934 انضمت اليها روسيا الاتحادية، وما ان جاء عام 1935 حتى بلغ عدد الدول الاعضاء في العصبة اثنتين وستين دولة.
وبالرغم من بعض النجاحات التي حققتها العصبة في حفظ الامن والسلم الدوليين من خلال فض بعض المنازعات بالطرق السلمية، الا انها فشلت في فض منازعات اخرى اكثر اهمية من النزاعات التي نجحت في فضها.
فقد فشلت العصبة في فض النزاع (الايطالي-اليوناني) سنة 1923 نتيجة لاحتلال ايطاليا جزيرة (كورفو) اليونانية، ولم تنسحب ايطاليا من الجزيرة المذكورة الا على أثر توسط فرنسا وبريطانيا في النزاع.
ولم تتخذ العصبة أي اجراء في مواجهة العدوان الياباني على منشورية سنة 1931، والعدوان الايطالي على الحبشة سنة 1936، والعدوان الالماني على تشيكوسلوفاكيا واحتلالها النمسا ودانجز.
ونتيجة لهذه الخفاقات او كوسيلة لشل نشاط العصبة وتقييده، بادرت بعض الدول الى سحب عضويتها منها، فقد انسحبت اليابان منها سنة 1931، واعقبتها المانيا وايطاليا سنة 1935.
ووقف وراء فشل العصبة عدّة اسباب:-
1- عدم تحديد اختصاصات الجمعية العامة ومجلس العصبة على وجه الدقة، الامر الذي ادى الى تراخي الهيئات المذكورة في اداء المهام المناطة بها، والذي انعكس سلباً على نشاط المنظمة بصفة عامة.
2- تأثر القرارات الصادرة عن العصبة باتجاهات ورغبات ومصالح القوى العظمى آنذاك، والتي هي ذاتها القوى التي سعت الى انشائها وأشرفت على وضع ميثاقها، كبريطانيا وفرنسا، الامر الذي خلق فجوة كبيرة بين هذه القوى وباقي الدول الاعضاء او بعضها على الاقل كالمانيا وايطاليا واليابان.
3- لم يحرّم ميثاق العصبة الحرب كوسيلة لحل المشكلات الدولية، على الرغم من انه سعى الى الحد من اللجوء اليها، فلمادة الثانية عشرة من العهد تنص على انه (لا يجوز شن الحرب قبل مضي ثلاثة اشهر من اتخاذ أحذ او بعض اجراءات التسوية السلمية للنزاع، كما انها تحضر اعلان الحرب على دولة قبلت قرارات التحكيم او القضاء أو التزمت بقرار المجلس الصادر بالإجماع ولو بعد مضي ثلاثة أشهر).
4- اشتراط ميثاق العصبة صدور قرارات الجمعية العامة ومجلس العصبة بالإجماع، الامر الذي ادى الى شل نشاط العصبة وحدّ من قدراتها على اتخاذ القرارات في المسائل المعروضة عليها، فأي قرار لا يصدر متى اعترضت عليه احدى الدول.
ولم يستثنِ ميثاق العصبة من قاعدة الاجماع الا المسائل الاجرائية والاقتراع على دخول عضو جديد، والفصل في نزاع دولي، حيث ليس لأطراف النزاع الاشتراك في التصويت على القرار الصادر بشأن هذا النزاع.
5- تردد العصبة في اتخاذ قرارات ومواقف حازمة تجاه انتهاكات بعض الدول، لميثاق العصبة وتهديدها للأمن والسلم الدوليين، الامر الذي انتهى الى اشعال نار الحرب العالمية الثانية.
6- عملت العصبة في ظل اجواء يسودها التناقض والتنافر بين الدول المنتصرة والمنهزمة في الحرب العالمية الاولى، بين الدول الراغبة في المحافظة على الوضع الراهن، وتلك الراغبة في مراجعة وتعديل بعض المعاهدات المبرمة، بين الدول الاستعمارية التي لا تحترم القواعد الدولية وتلك التي تنحو نحو السلم في علاقاتها الودية.
7- خولت المادة الثامنة من العهد العصبة صلاحية فرض الرقابة على برامج تسليح الدول الاعضاء فيها، الا ان معالجة العهد لهذه المسألة كانت معالجة مبتسرة، فقد اوردت المادة الثامنة تعابير عامة تفسح المجال واسعاً أمام الدول للتحايل على احكامها، فهي منحت الدول الاعضاء حق التسلح بما يؤمّن لها المحافظة على امنها واستقلالها، والواقع انه لا يوجد معيار محدد منضبط لمعرفة القدرة التسليحية التي من شأنها المحافظة على امن الدولة واستقلالها، هذا من جانب، ومن جانب آخر ان ذات النص يشير الى برامج التسلح المقترحة من قبل العصبة تعرض على الدول الاعضاء كل فيما يخصها، ولا تعد هذه البرامج ملزمة للدول الا اذا اقرتها، على ذلك ان هذه البرامج لا تلزم الدول الا بإرادتها، الامر الذي يفقد النص فحواه وجدواه في ذات الوقت.
8- عدم انضمام بعض مراكز القوى كالولايات المتحدة للعصبة، وانسحاب اخرى منها كألمانيا واليابان، الامر الذي انعكس سلباً على نشاط المنظمة وهيبتها، اذ بدت حتى الدول الاعضاء مترددة في عرض نزاعاتها على العصبة، لاعتقادها بان العصبة غير قادرة على اتخاذ قرارات حاسمة.
9- افتقار العصبة لأداة تنفيذية (قوة عسكرية) تمكنها من اداء المهام المناطة بها، فمن المسلّم به ان امتلاك القوة العسكرية من قبل أي منظمة دولية تأخذ على عاتقها مهمة المحافظة على السلم والأمن الدوليين أمر لا غنى عنه.
والواقع ان المآخذ المسجلة على العصبة امر غير مستغرب على تجربة جديدة، فكل تجربة حديثة تسجل لها ايجابيات وعليها سلبيات، والسلبيات المسجلة على العصبة لا يعني انها فشلت تمام في اداء المهام المسندة اليها، فالعصبة نجحت في انجاز بعض مهامها ولكن بدرجة أقل مما كان متوقعا لها.
الفصل الثاني: تعريف المنظمة الدولية بأنواعها
المبحث الاول: تعريف المنظمة الدولية وعناصرها
ظهر اصطلاح التنظيم الدولي، اول مرة في فقه القانون الدولي سنة 1908، في ترجمة لمقال كتب باللغة الالمانية ونشرت ترجمته الفرنسية في المجلة العامة للقانون الدولي، ثم ذاع استعماله من قبل فقهاء القانون الدولي الالمان.
والواقع ان تعريف المنظمة الدولية امر غير يسير، وذلك لحداثة عهد هذه الظاهرة وتعدد انواعها وطوائفها، هذا اضافة الى الخلط المتوقع بين هذا المصطلح، وبين غيره من المصطلحات التي تقترب معه وتتصل به.
وقبل الخوض في تعريف المنظمة الدولية، لا بد من التمييز بين هذا المصطلح والمصطلحات التي تقترب منه:
النظم الدولية International institution
التنظيم الدولي The International Organization
المنظمة الدولية An International Organization
فالنظم الدولية (International Organization) ، تعني مجموعة القواعد القانونية المنظمة لموضوع رئيسي معين او المرتبط بإطار موضوعي محدد، مثل نظم الملكية في القانون الداخلي او نظم الحياد او التمثيل الدبلوماسي والقنصلي في القانون الدولي العام، او هي كافة التنظيمات والتقاليد والقواعد الاساسية التي تمييز الجماعة الدولية وتقوم الجماعة بإتباعها في تنظيم ما ينشأ من علاقات وروابط، ومن ثم تشمل المنظمات الدولية والعلاقات الدبلوماسية والمؤتمرات والحرب.
اما التنظيم الدولي (The International Organization) ، فيقصد به الاطار الذي تشكل داخله الجماعة الدولية ، وبالتالي يمكن ان تتبين ما به من اوجه النقص.
والتنظيم الدولي بهذا المعنى يشمل كل مظهر للعلاقات الدولية، مثل العلاقات الدبلوماسية والقنصلية وإبرام المعاهدات وعقد المؤتمرات الدولية وغير ذلك من الانظمة القانونية الاخرى.
وتعّرف المنظمة الدولية (An International Organization) بأنها ذلك الكيان الدائم الذي تقوم الدول بإنشائه من اجل تحقيق اهداف مشتركة يلزم لبلوغها منح هذا الكيان إرادة ذاتية مستقلة، او هي وحدة قانونية تنشئها الدول لتحقيق غايات معينة وتكون لها إرادة مستقلة يتم التعبير عنها عبر اجهزة خاصة بالمنظمة. كما تعّرف بأنها كائن قانوني دولي يتمتع بإرادة ذاتية يمارسها من خلال اجهزة او فروع تابعة له ويهدف الى رعاية بعض المصالح المشتركة او تحقيق اهداف معينة على الصعيد الدولي. ونعرّف المنظمة بأنها (كيان قانوني دولي مستمر. تنشئه مجموعة من الدول، يجمع بينها مصالح مشتركة تسعى الى تحقيقها، ويتمتع هذا الكيان بإرادة ذاتية مستقلة يتم التعبير عنها بأجهزة خاصة ينشئها ميثاق المنظمة).
ومن استعراض التعاريف السابقة للمنظمة الدولية، يتبين لنا، ان لهذا الكيان عدة عناصر هي:-
اولاً: الصفة الدولية:-
ويقصد بهذا العنصر، ان يتم تأسيس المنظمة من قبل كيانات تتمتع بوصف الدولة كاملة السيادة، وتقوم حكومة كل دولة باختيار من يمثلها في المنظمة.
والمنظمة بهذا الوصف، هي المنظمة الدولية الحكومية ، وبالتالي يخرج عن هذا الوصف المنظمات التي يتم تأسيسها باتفاق الافراد والهيئات والجماعات الخاصة، إذ يطلق على هذه الكيانات، المنظمات غير الحكومية، كمنظمة العفو الدولية ، وجمعيات حقوق الانسان ومنظمة أطباء بلا حدود واتحاد المحامين العرب والاتحاد البرلماني الدولي وجمعية الصليب والهلال الاحمر.
ثانياً: الارادة الذاتية (الشخصية القانونية الدولية):-
والعنصر المميز الاخر للمنظمة الدولية، هو تمتعها بإرادة الذاتية مستقلة عن إرادة الدول الاعضاء، تلك الارادة التي تمّكن المنظمة من اكتساب الحقوق والالتزام بالواجبات.
وتم الاعتراف للمنظمة بالرادة الذاتية اول مرة في الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية في 11 ابريل 1949 بشأن التعويضات عن الاضرار التي تلحق بموظفي الامم المتحدة.
وعنصر الارادة الذاتية، هو ما يميز المنظمة الدولية عن المؤتمر الدولي، إذ لا يتمتع الاخير بإرادة ذاتية مستقلة عن إرادة الدول المشتركة فيه، وبالتالي فأن قرارات المؤتمر لا تلزم الا الدول التي وافقت عليها، في حين تلزم القرارات الصادرة بالأغلبية كافة الدول الاعضاء في المنظمة الا اذا اشترط الميثاق صدور القرار بالإجماع.
ويترتب على تمتع المنظمة الدولية بالإرادة الذاتية عدة نتائج:-
1- تنسب الاعمال القانونية الصادرة عن المنظمة اليها لا الى الدول الاعضاء فيها.
2- تمتع المنظمة بذمة مالية مستقلة عن الذمة المالية للدول الاعضاء فيها، من هنا قد تكون المنظمة دانئة ومدينة للدول الاعضاء فيها او للغير.
3- اهلية المنظمة الدولية للتقاضي، وبالتالي قد تكون المنظمة مدعية او مدعى عليها، فالمنظمة الدولية مثلا تتحمل المسؤولية عن اعمالها غير المشروعة، وبصفة عامة عن الاعمال التي تستوجب المسؤولية طبقا لأحكام القانون الدولي.
4- أهلية المنظمة الدولية لإبرام الاتفاقيات الدولية، والمشاركة في انشاء قواعد القانون الدولي عن طريق العرف او من خلال ما تصدره من قرارات ذات طابع تشريعي.
5- للمنظمة التعاقد مع من تحتاج اليهم من العاملين، ولها تنظيم مراكزهم القانونية، لا بد من الاشارة الى ان هناك جانب من الفقه يشكك في ضرورة تمتع المنظمة الدولية بالإرادة الذاتية، على اساس انه في الحالة التي يشترط فيها الاجماع لصدور القرارات من المنظمة تكون الارادة المنسوبة لها عبارة عن مجموعة ارادات الدول الاعضاء، وهذا ما يقرب المنظمة الدولية من المؤتمر الدولي.
ان هذا الرأي صحيح، لو كانت إرادة المنظمة عبارة عن مجموع إرادات الدول الاعضاء فيها، ولكن ارادة المنظمة، هي ارادة مستقلة عن ارادة الدول الاعضاء فيها بدليل ان غالبية مواثيق المنظمات الدولية تكتفي بالأغلبية لصدور القرار عنها ولا تشترط الاجماع الا استثناءً، ويحصل ان يصدر في الجلسة الواحدة للمنظمة قرارين، يشترط الميثاق في احدهما الأغلبية وفي الآخر الاجماع، وأما هذا الاحتمال يُثار التساؤل هل من المقبول ان تمتلك المنظمة الارادة المستقلة ثم تفقدها في ذات الجلسة؟ وسبق وان اشرنا الى ان واحداً من أهم اسباب فشل عصبة الامم اشتراط العهد الاجماع لصدور قرارات الجمعية العامة ومجلس العصبة.
هذا اضافة الى ان ارادة المنظمة بعد تكوينها تنصرف الى عمل معين في حين تنصرف ارادة الدول المشتركة في التصويت الى مجرد واقعة التصويت ذاتها.
ثالثاً: الاستمرار والديمومة:
من خصائص المنظمة الدولية، الاستمرار والديمومة فالمنظمة تنشأ أصلاً من التقاء ارادة مجموعة من الدول لتحقيق غايات مشتركة مستمرة، من هنا كان لا بد من استمرار المنظمة واجهزتها.
وصفة الدوام لا تستلزم الاستمرار المادي بجميع اجهزة المنظمة، بل ان تكون هذه الاجهزة في حالة تسمح لها بالالتئام متى دعت الضرورة لذلك.
وعنصر الاستمرار لا يعني ان تظل المنظمة قائمة الى ما لا نهاية بل يعني أن يكون وجودها عرضاً كما في المؤتمرات الدولية، فاذا كانت المؤتمرات الدولية تشبه في طريقة عملها أجهزة المنظمة الدولية من حيث الاجراءات المتبعة أو عملية اتخاذ القرارات الا انهما يختلفان من حيث ان المؤتمر الدولي ينعقد لبحث مسألة معينة ينفض بعدها بغض النظر عن النتيجة التي يتوصل اليها، على عكس اجهزة المنظمة التي تتسم بالدوام وتنعقد بصفة دورية محددة سلفاً في الميثاق المنشأ لها.
رابعاً: الاهداف المشتركة:
لكل منظمة دولية اهداف تسعى الى تحقيقها، فالمنظمة ليست غاية في حد ذاتها بل وسيلة لتحقيق غاية، ويتم تحديد اهداف المنظمة عادة في ميثاق انشاؤها.
وقد تكون هذه الاهداف عامة شاملة (سياسية، اقتصادية، ثقافية، اجتماعية...) كما في منظمة الامم المتحدة او خاصة محددة على وجه الحصر كأن تكون اقتصادية مثلاً، كما في منظمة التجارة العالمية، او ثقافية كما في منظمة اليونسكو، او صحية كما في منظمة الصحة العالمية، أو اجتماعية كما في منظمة العمل الدولية.
خامساً: الاتفاق الدولي:
لكل عمل قانوني سند يثبت وجوده، ولا تشذ عن ذلك المنظمات الدولية، وسند وجود المنظمة الدولية هو ميثاق انشاؤها الذي يعبر عن التقاء ارادات الدول الاعضاء فيها بغض النظر عن التسمية التي يتخذها هذا السند، فقد يطلق عليه عهد (Covenant) كما في وثيقة انشاء عصبة الامم، او ميثاق (charter) كما في وثيقة انشاء الامم المتحدة، او دستور (constitution) كما في وثيقة انشاء منظمة الصحة العالمية...الخ.
والأصل ان الدولة ذات السيادة هي التي لها ابرام اتفاقيات انشاء المنظمات الدولية، ويرد على هذا الأصل استثناء، اذ قد يتم انشاء المنظمة من قبل كيانات لا ينطبق عليها وصف الدولة، ولكن يقتصر هذ الاستثناء على انشاء المنظمات غير الحكومية (Les Organisation internationles non governmenales).
وحيث ان سند انشاء المنظمة هو الوثيقة التي تجتمع فيها ارادة الدول الاعضاء، فان هذا يعني بالضرورة ان لكل دولة حرية الانضمام الى المنظمة في حدود توافر شروط وضوابط الانضمام اليها، وليس للمنظمة ولأعضائها ارغام دولة ما على الانضمام اليها دون ارادتها بغض النظر عن نوع او طبيعة المنظمة.
ولا بد من الاشارة الى ان تعاوناً يمكن ان يقوم بين المنظمات الحكومية والمنظمات غير الحكومية، فقد أشارت المادة (71) من ميثاق الامم المتحدة الى انه (للمجلس الاقتصادي والاجتماعي ان يجري الترتيبات المناسبة للتشاور مع الهيئات غير الحكومية التي تعنى بالمسائل الداخلة في اختصاصه).
المبحث الثاني: الشخصية القانونية للمنظمة الدولية
تقوم القواعد القانونية في ظل نظام قانوني معين بترتيب الحقوق وفرض الالتزامات، ويسمى شخصاً قانونياً من تخاطبه تلك القواعد القانونية ومن الثابت ان الشخصية القانونية ليست الا مجرد حيلة قانونية، فهي تمثل أداة يمنح نظام قانوني معين بعض الحقوق الى كائن ما ويلزمه ببعض الالتزامات.
وتبرز اهمية منح الشخصية القانونية للمنظمة الدولية، من كونها تحدد الوضع القانوني الذي تتمتع به المنظمة الدولية على الصعيد الدولي، كما انها هي التي تسمح بالمحافظة على وحدة المنظمة خصوصاً قبل الغير، اضافة الى ان الاعتراف للمنظمة بالشخصية القانونية يعني الاعتراف لها بذاتية قانونية خاصة تجعلها قادرة على ان تقيم لحسابها الخاص علاقات مع غيرها من أشخاص القانون الدولي، وفي ذات الوقت تجعلها (المنظمة) كائناً منفصلاً عن الاعضاء.
وكان من المتفق عليه في فقه القانون الدولي التقليدي، ان وصف الشخصية القانونية الدولية لا يثبت الا للدول، فالدول وحدها هي اشخاص القانون الدولي التي يكون لها اكتساب الحقوق والالتزام بالواجبات والقيام بالتصرفات القانونية واللجوء الى القضاء.
الا ان هذا المفهوم بدا يهتز بفعل ظهور المنظمات الدولية بصورتها الاولى حيث نادى (بروسبير فيدوزي) (Prospero Fedozzi) في سنة 1897 بضرورة تمتع الاتحادات الدولية بالشخصية القانونية، وفي سنة 1914 نادى (جيدو فيز يناتو) (Guido Fustnato) باعتبار معهد الزراعة الدولي شخصاً من اشخاص القانون الدولي.
كما نادى بعض الفقهاء باعتبار لجنة التعويضات المنشئة في اعقاب الحرب العالمية الاولى ولجنة المضايق التركية المنشأة بمقتضى معاهدة لوزان سنة 1932، واللجنة الاوربية للدانوب من قبيل اشخاص القانون الدولي.
على ان منح الشخصية القانونية للمنظمات الدولية ليس غاية في ذاتها بل وسيلة لتمكينها من الدخول في علاقات مع غيرها من الكيانات القانونية الاخرى وبذلك يمكنها المساهمة في الحياة القانونية الدولية.
والجدير بالذكر ان الجدل بشأن هذا الموضوع لم يشتد الا مع انشاء عصبة الامم، حيث لم يشر عهد العصبة الى تمتع او عدم تمتع العصبة بالشخصية القانونية، ومع ذلك نصت المادة الاولى من اتفاقية المقر التي عقدت بين العصبة وسويسرا سنة 1926 على انه (العصبة التي تتمتع بالشخصية الدولية والأهلية القانونية لا يمكن –كقاعدة وطبقاً لأحكام القانون الدولي- ان تخاصم امام المحكمة السويسرية دون موافقتها الصريحة.
وتجدد هذا الخلاف والنقاش مرة اخرى في مناقشات وضع ميثاق الامم المتحدة، وللتوفيق بين الاتجاهين المتعارضين، نصت المادة (140) من ميثاق الامم المتحدة على انه (تتمتع الهيئة في بلاد كل عضو من اعضائها بالأهلية القانونية التي يتطلبها قيامها بأعباء وظيفتها وتحقيق مقاصدها).
والواقع ان هذا النص وصياغته لم يحسم الخلاف الفقهي بشأن تمتع المنظمة بالشخصية القانونية بصورة نهائية، بل واثار جدل من نوع آخر، مفاده هل تتمتع المنظمة الدولية بالشخصية يسري في دائرة القوانين الوطنية وحدها ام يمتد الى نطاق القانون الدولي؟
وعملياً لم يحسم الخلاف حول هذا الموضوع الا بالرأي الاستشاري الشهير الذي اصدرته محكمة العدل الدولية سنة 1949 والذي اعترفت فيه بالشخصية القانونية للأمم المتحدة، مؤكدة ان الدول ليست وحدها اشخاصاً للقانون الدولي العام، وان الهيئات الدولية التي انشئت نتيجة للظروف الدولية يمكن اعتبارها اشخاصاً قانونية من طبيعة خاصة متميزة عن طبيعة الدول، تتمتع بأهلية قانونية خاصة تتناسب في اتساع مجالها او ضيقه مع الاهداف التي انشأت من أجل تحقيقها.
وقد تعرضت محكمة العدل الدولية لمسألة تمتع المنظمة بالشخصية الدولية، بمناسبة البحث عن مدى اهلية الامم المتحدة للمطالبة بالتعويض عن الاضرار اللاحقة بموظفيها اثناء تأديتهم الخدمة، وترجع ظروف هذه الفتوى الى ما حدث خلال عامي (1947-1948) من اصابة بعض العاملين في الامم المتحدة بأضرار متفاوتة والتي كان من ابلغها مقتل (الكونت برنادوت) وسيط الامم المتحدة لتسوية الحرب الفلسطينية خلال زيارة قام بها للأراضي المحتلة، ونتيجة لهذا الحادث تساءلت الامم المتحدة ومن بعدها الفقه ما اذا كانت من حقها (الامم المتحدة) رفع دعوى المسؤولية الدولية في حالة اصابة احد العاملين لديها بأضرار أثناء تأدية الخدمة أو لسببها؟ وكانت الاجابة على هذا التساؤل تقضي بالضرورة البحث في مدى تمتع الامم المتحدة، وبصفة عامة المنظمات الدولية بالشخصية الدولية؟ انتهت المحكمة في رأيها الاستشاري الى ان (الاشخاص القانونية في أي نظام قانوني ليسوا بالضرورة متماثلين في طبيعتهم وفي نطاق حقوقهم بل تتوقف طبيعة كل منهم على ظروف المجتمع الذي نشأ فيه وعلى متطلباته...، كما انتهت الى ان الدول ليست وحدها أشخاص القانون الدولي العام، اذ قد تتمتع بالشخصية القانونية كائنات اخرى غير الدول اذا ما اقتضت ظروف نشأتها وطبيعة الاهداف المنوطة بها تحقيقها الاعتراف لها بالشخصية،... وتضيف المحكمة، ان ميثاق الامم المتحدة لم يقتصر على جعل المنظمة مجرد مركز قانوني يتم في تنسيق جهود الشعوب نحو تحقيق الغايات المشتركة التي نصّ عليها بل زودها بعدد من الاجهزة والفروع وأناط بكل منها مهمة خاصة، كذلك نظّم الميثاق المركز القانوني للدول الاعضاء تجاه المنظمة، حيث نصت المادة (105) منه على انه (1- تتمتع الهيئة في أرض كل عضو بالمزايا والاعفاءات التي يتطلبها تحقيق مقاصدها، 2- كذلك يتمتع المندوبين عن اعضاء –الامم المتحدة- وموظفو هذه الهيئة بالمزايا والاعفاءات التي يتطلبها استقلالها في القيام بمهام وظائفهم المتصلة بالهيئة، 3- للجمعية العامة ان تقدم التوصيات بقصد تحديد التفاصيل الخاصة لتطبيق الفقرتين الاولى والثانية من هذه المادة، ولها أن تقترح على أعضاء الهيئة عقد اتفاقات خاصة لهذا الغرض).
ولاحظت المحكمة اخيراً انه بينما تتمتع الدول بكافة الحقوق والالتزامات الدولية المعترف بها في القانون الدولي، فان المنظمة لا تتمتع بكل هذه الحقوق والالتزامات وانما يتوقف مقدار ما تتمتع به على القدر الضروري الذي يحقق اهدافها ووظائفها كما هو مشار اليه صراحة أو ضمناً في الوثيقة المنشأة لها وما جرت عليه المنظمة في ممارساتها الواقعية، واذا كان القرار الدولي قد اقر بتمتع المنظمات الدولية بالشخصية القانونية فان جانب من الفقه العربي والغربي، ما زال ينكر على المنظمة الدولية تمتعها بالشخصية القانونية، فبعض الفقه الايطالي يهب الى ان من العب القول باستقلال المنظمة الدولية عن الاعضاء فيها لأن الاخيرة (المنظمة الدولية) تعتمد بصفة اساسية على اعضائها كما انها لا تتمتع باستقلال مالي تجاه الدول الاعضاء بل تتكون ميزانيتها بصفة اساسية من اشتراكات الدول الاعضاء.
اما الاستاذ الدكتور علي صادق ابو هيف فيذهب الى انه (الشائع في الفقه الدولي اعتبار الهيئات الدولية التي لها كيان مستقل من اشخاص القانون الدولي العام كما هو شأن الدول والبابا، غير ان في هذا الشائع انحراف بتلك الهيئات عن وضعها الحقيقي وخلط بين الشخصية الدولية والاهلية القانونية، فهذه الهيئات ولا نزاع يمكن ان تتمتع بالأهلية القانونية اللازمة لقيامها بمهامها، انما هذا لا يستتبع حتماً اعتبارها من اشخاص القانون الدولي العام لأنه لا تلازم حتمي بين هذه الاهلية وبن الشخصية الدولية بمفهومها الدقيق، فالدولة ناقصة السيادة لا تتمتع في محيط العلاقات الدولية بأهلية كاملة ولا يحول هذا مع ذلك دون اعتبارها من اشخاص القانون الدولي العام...)
ونشير الى ان هذا الرأي لا يمثل الا اتجاه ضعيف في فقه القانون الدولي العام، اذ تقر الغالبية العظمى من الفقه بالشخصية القانونية للمنظمة الدولية.
المبحث الثالث: أنواع المنظمات الدولية
ان تصنيف اية ظاهرة من شأنه الاسهام في معرفة طبيعتها بطريق اعمق وبأسلوب اكثر تنظيما، كونه يظهر الخصائص الغالبة في الظاهرة.
ولا تشذ عن ذلك المنظمات الدولية، بل ان التصنيف في الظاهرة الاخيرة يبدو اكثر اهمية، لحداثة هذه الظاهرة وانتشارها واتساع نطاقها، حتى امتد الى كل بقاع العالم وفي شتى المجالات.
ويجري تصنيف المنظمات الدولية اعتمادا على عدة معايير وعلى التفصيل التالي:-
اولا: من حيث نطاق العضوية:
تنقسم المنظمات الدولية من حيث نطاق العضوية، الى منظمات عالمية واقليمية:-
1- المنظمات العالمية (De Vocation Universelle)
هي المنظمات التي تكون العضوية فيها مفتوحة لكل دول العالم الراغبة في الانضمام اليها متى توافرت فيها شروط العضوية المنصوص عليها في ميثاق المنظمة.
على ذلك لا تتحدد العضوية في هذا النوع من المنظمات في نطاق جغرافي معين بل تمتد لتشمل كل دول العالم، ومن امثلة هذه المنظمات، (عصبة الامم ، الامم المتحدة)، والمنظمات الدولية المتخصصة كـ (اليونيدو، واليونسكو، واليونسيف، ومنظمة الصحة العالمية، ومنظمة العمل الدولية).
ويذهب جانب من الفقه، الى ان منظمة دولية لا يمكن ان تكون عالمية بصفة مطلقة، وذلك لأن انضمام لمنظمة ما، فحصل ان اعترض الكونغرس الامريكي على انضمام الولايات المتحدة الامريكية لعصبة الامم.
وقد تنضم الدولة للمنظمة بإرادتها الا انها تنسحب بعد حين، ومثل هذا ما حدث في عصبة الامم، حيث انسحبت ايطاليا والمانيا واليابان منها قبل حلها.
وقد يفرض الوضع القانوني لدولة ما عدم انضمامها للمنظمة الدولية، فالوضع القانوني لسويسرا باعتبارها دولة حياد حتم عليها عدم الانضمام للأمم المتحدة.
2- المنظمات الاقليمية (regionales):
ويقصد بهذا النوع من المنظمات، المنظمات التي تضم في عضويتها عدد محدد من الدول، او التي يكون نطاق اختصاصها محدد برقعة جغرافية معينة، وتتنوع الاسس التي يقوم عليها المنظمات الاقليمية، فقد تقوم على اساس قومي كجامعة الدول العربية او جغرافي كمنظمة الوحدة الافريقية ومنظمة الدول الامريكية ، او امني كحلف شمال الاطلنطي وحلف وارسو وحلف الناتو، او اقتصادي كمنظمة التجارة العالمية ومنظمة الدول المنتجة للبترول (الاوبك) ، او ديني كمنظمة المؤتمر الاسلامي.
والجدير بالذكر ان المنظمات العالمية والاقليمية غير ملزمة بقبول عضوية كل الدول الراغبة في الانضمام اليها، بل ان بعض المنظمات تفرض شروطا لقبول عضوية الدول.
وبصفة عامة يمكن التمييز من حيث شروط العضوية بين ثلاث انواع من المنظمات الدولية:
أ- منظمات تترك باب العضوية مفتوحا لكل الدول الراغبة في الانضمام اليها، كما في اتحاد البريد العالمي حتى سنة 1947، وكما في انضمام الدول الاعضاء في الامم المتحدة للوكالات المتخصصة.
ب- منظمات تفرض شروطا موضوعية معينة لقبول عضوية الدول، وتختلف هذه الشروط من منظمة لأخرى، فالمادة (1/2) من عهد عصبة الامم تشترط في الدولة طالبة الانضمام ان تحكم نفسها بحرية.
ت- منظمات تمنح الدول الاعضاء او الدول المؤسسة سلطة تقديرية في قبول الدول والكيانات الدولية الاخرى الراغبة في الانضمام للمنظمة، ومن ذلك منظمة الامم المتحدة التي اشترطت لقبول العضوية، صدور قرار من الجمعية العامة بناء على توصية مجلس الامن، ومن ذلك ايضاً الشروط التي فرضها النظام الاساسي لمجلس اوروبا ومعاهدة حلف شمال الاطلنطي.
ثانياً: من حيث الاختصاص:
تقسم المنظمات الدولية من حيث الاختصاص الى منظمات عامة ومتخصصة وأساس هذا التقسيم، هو وحدة او تعدد الاهداف التي تسعى المنظمة الى تحقيقها وعلى التفصيل التالي:
1- المنظمات العامة (Organisations generales):
هي المنظمات التي يمتد اختصاصها ليشمل مظاهر متعددة في العلاقات الدولية، كمنظمة الامم المتحدة التي تسعى الى المحافظة على السلم والأمن الدوليين وتدعيم التعاون السياسية والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
وقد يكون هذا النوع من المنظمات عالميا، كالأمم المتحدة (Les Nations unies)، وعصبة الامم (The united nations)، أو اقليمية كمنظمة الوحدة الافريقية (Organization of Africana Unity)، وجامعة الدول العربية (The Arab League).
2- المنظمات المتخصصة (Specialized Agencie):
هي المنظمات التي يقتصر نشاطها على مجال واحد من مجالات العلاقات الدولية أو التي تسعى الى تحقيق التعاون بين اعضائها في موضوع معين او في مجال محدد، وقد تكون هذه المنظمات عالمية او اقليمية، وعلى حد سواء مع المنظمات العامة.
ولا يتحدد نشاط هذه المنظمات في مجال دون غيره، فقد يكون نشاطها اقتصادياً كما ف صندوق النقد الدولي (Les Fonds mone’taire internation)، والبنك الدولي للانشاء والتعمير (La Banque internationale pour la reconstruction de la develpement )، او اجتماعي كمنظمة العمل الدولية (Organisation international du travail)، او صحي كمنظمة الصحة العالمية (L’org’anisation modiale de la sant’e)، او ثقافي كمنظمة اليونسكو للتربية ولعلوم والثقافة (Unesco).
وقد ينصب نشاط المنظمة على النقل والمواصلات، كاتحاد البريد العالمي (L’Union postle universelle)، ومنظمة الطيران المدني (L’organisation de L’Aviation civile internationale)، وقد ينصب على الجانب القضائي كما في محكمة العدل الدولية والمحكمة الاوروبية لحقوق الانسان.
وانقسم رأي الفقه بشأن اعتبار الاحلاف العسكرية منظمات دولية متخصصة كحلف شمال الاطلنطي وحلف وارسو ومعاهدة الدفاع المشترك الموقعة بين الدول العربية سنة 1950، الاتجاه الاول يذهب الى ان هذه الاحلاف منظمات دولية متخصصة بشرط ان لا يمتد نشاطها الى ميادين أخرى، أما الاتجاه الثاني والذي نؤيده فيذهب الى انه من الصعب عملاً ان يقتصر نشاط الاحلاف العسكرية على التعاون العسكري البحت، اذ تحتم عليها اعتبارات الاستراتيجية الحديثة ان تمد نطاق نشاطها ايضاً، التعامل في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية... .
ثالثاً: من حيث الصلاحيات:
تتمتع المنظمات الدولية بموجب الميثاق الذي يضم انشاؤها ونشاطها بمجموعة من الصلاحيات، الا ان هذه الصلاحيات تتباين سعةً وضيقاً من منظمة لأخرى.
وبصفة عامة يمكن تقسيم المنظمات الدولية من حيث الصلاحيات التي تتمتع بها الى:-
1- منظمات تتمتع بصلاحيات فعلية واسعة، ومثل هذه المنظمات تعد استثناءً على الأصل، فالأصل محدودية الصلاحيات التي تتمتع بها المنظمات الدولية في مواجهة اعضاؤها.
ولهذا النوع من المنظمات صلاحيات تخولها تنفيذ قراراتها بوسائلها الخاصة مستقلة في ذلك عن رغبات الدول والاعضاء، من ذلك قرارات محكمة العدل الدولية، ومجلس الامن في حالة تهديد السلم والامن الدوليين، وقرارات السلطة العليا لمنظمة الفحم والصلب.
2- منظمات لا تملك الا صلاحية ابداء الآراء والرغبات وهذا النوع من المنظمات هي الصورة الغالبة فيها، حيث تتحدد صلاحياتها باقتراح الاتفاقيات واصدار التوصيات والاقتراحات التي يتوقف تنفيذها على رغبات الدول الاعضاء.
ويميز جانب من الفقه بين هذين النوعين من المنظمات فيطلق على الاولى (التي تملك صلاحيات فعلية) المنظمات الدولية القائمة على فكرة الاتحاد او على السيادة الدولية، ويسمي الثانية (التي لا تملك الا صلاحيات شكلية) المنظمات الدولية القائمة على التعاون.
رابعاً: من حيث اعضاؤها:
تقسم المنظمات الدولية من حيث اعضاؤها الى منظمات حكومية وأخرى غير حكومية، ومنظمات مختلطة.
1- المنظمات الحكومية، ويقصد بهذا النوع من المنظمات، المنظمات التي لا تضم في عضويتها سوى الدول، كعصبة الامم، والأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية، ومنظمة الوحدة الافريقية، ومنظمة الدول الاميركية، ومنظمة المؤتمر الاسلامي، ومجموعة الدول الثمان.
2- المنظمات غير الحكومية ويقصد بها، المنظمات التي يتم تأسيسها من قبل الافراد، وازدادت اهمية هذا النوع من المنظمات في الآونة الاخيرة، حيث استطاعت هذه المنظمات زيادة الاتصال بين الأفراد والجماعات على الصعيدين الدولي والوطني، ومن امثلة هذه المنظمات، منظمة العفو الدولية، ومنظمة أطباء بلا حدود، وجمعية الصليب والهلال الاحمر، وجمعيات حقوق الانسان.
وتأكيداً لأهمية الدور الذي تلعبه هذه المنظمات على العيد الدولي، نصّت المادة (71) من ميثاق الامم المتحدة على انه (للمجلس الاقتصادي والاجتماعي ان يجري الترتيبات المناسبة للتشاور معها في المسائل الداخلة في اختصاصها. وهذه الترتيبات يمكن ان يجريها المجلس مع هيئات دولية، كما انه قد يجريها مع هيئات اهلية، وبعد التشاور مع عضو الامم المتحدة ذي الشأن.
3- المنظمات المختلطة، هي المنظمات التي تكون فيها باب العضوية مفتوحة للدول والجماعات التي لا تحمل وصف الشخصية الدولية والافراد.
ويتخذ تمثيل الافراد والجماعات في هذه المنظمات احدى ثلاث صور، اما ان تسمح المنظمة للعضوية، أو العضوية بالانتساب لأقاليم لا تتمتع بالحكم الذاتي كما في اتحاد البريد العالمي، او ان يسمح ميثاق المنظمة لكل دولة عضو بأن يضم وفدها افراد يمثلون فئة معينة كما في ميثاق منظمة العمل الدولية، الي سمح لوفود الدول الاعضاء [ان تضم في عضويتها ممثلين عن العمال وارباب العمل، أو ان يكون احد اجهزة المنظمة مكون فقد من افراد عاديين كما في الجمعية العامة لمجلس أوروبا.
- Enseignant: Dr. Samia YATTOUDJI