أسباب وعوامل انتشار التعليم في المدن الجزائرية

لقد أثر توافد الأندلسيين واحتكاكهم بالسكان في الفترة ما بعد سقوط الأندلس والوجود العثماني تأثيرا كبيرا على طبيعة الإنسان ليس في المجال الثقافي فقط بل في كل المجالات نظرا لطبيعة الجزائريين المعروف عليهم سلميتهم وصدقهم وكرمهم، فاعتنى بذلك الجزائريون بالعلوم والآداب، فنبغ منهم الشعراء والأدباء، وأساتذة التاريخ والمشرّعون ، كما أدى انتشار الزوايا ودور الرباطات المختلفة في الجزائر العثمانية إلى تنامي التعليم، حيث ارتبطت الثقافة في الجزائر بالمرافق الدينية والتعليمية، وفي مقدمتها المساجد والأوقاف العامة والكتاتيب والتي اعتمدت في عملية التدريس على المعارف العامة والثقافة التقليدية نظرا لدورها البارز في ثقافة المجتمع الجزائري في تلك الفترة، فأدت بذلك دوراً هاماً حيث احتلت الزوايا والرباطات الصدارة في تثقيف الفقراء والمحرومين من أبناء الشعب المتعطش للعلم والمعرفة، فقسّمت بذلك إلى قسمين، قام القسم الأول بوظيفة تحفيظ القرآن الكريم، أما القسم الثاني فقد أوكلت إليه مهمة تدريس بعض فنون الفقه ومبادئ الفلك والعقائد وقواعد النحو والصّرف وفنون اللغة والمنطق .

إن أول خطوة تعليمية تم إقرارها هي إرساء مجانية التعليم وتم تسميته بالتعليم الحر، انطلاقا من المستوى الثانوي إلى غاية التعليم العالي، وفتح العثمانيون على أنقاضه مدارس مُلحقة بالمساجد، فانتشرت بذلك المؤسسات التعليمية المختلفة، وتفاوتت بين المدارس الابتدائية القرآنية ومعاهد التعليم العالي، فأولى بذلك وكلاء الشؤون الدينية عناية خاصة به، وأوصوا بضرورة أن يكون التعليم عربيا إسلاميا اهتمت به مؤسسات الأوقاف الخيرية التي عملت على تشجيع الإلتحاق بالمنشآت التعليمية المفتوحة لكل شرائح المجتمع، والهدف من ذلك كله هو تعليم الجزائريين تعليما أصليا، وحصر مهمة المدرسة في تكوين نخب للتكيف مع المستجدات الطارئة على المجتمع على المدى البعيد، وهو ما ذهبت إليه التقارير الفرنسية خاصة تقرير تريزال حول حاضرة قسنطينة، حيث بينت بأن تدهور التعليم بدأ مع الاحتلال الفرنسي للجزائر، عكس ما روّج له عن انحطاط حالة التعليم في الجزائر العثمانية .

اقتصر التعليم الابتدائي على القراءة والكتابة تمهيدا لحفظ القرآن الكريم والمبادئ الأساسية للحساب، أما في المرحلة الثانوية فيتم في المساجد الكبرى وبعض الزوايا (جامع سيدي العربي والجامع الكبير بتلمسان، زاوية القليعة ومليانة، وبني سليمان والجامع الأعظم في الجزائر العاصمة، وجامع سيدي لخضر بقسنطينة، وزاوية سيدي عقبة ببسكرة، وابن علي الشريف في القبائل وبعض المساجد بوادي ميزاب)، وكان مستوى التعليم بين الأساتذة والطلبة متفاوتا، فالحواضر أحسن من البوادي نظرا لوفرة الكتب والاختلاط والتنافس وحركة العلماء والأدباء والمدرسين، ومن أشهرهم: محمد بن أحمد سامي البوني، أحمد بن عثمان التلمساني، عبد الرحمان باش تارزي، عمار بن شريط القسنطيني وغيرهم .

تدل مراحل الحكم التركي في الجزائر إلى نوع من العلاقة التي جمعت الجزائر بالدولة العثمانية، والتي كانت في البداية متينة ومتوطدة سياسيا، ثم أخذت في الضعف أثناء الحكم الثنائي حين كان ممثل السلطان مجرد موظف سام يتقاضى أجره ويشاهد مجريات الأمور، ولا يستطيع فعل أي شيء.

إذا حكمنا على إنتاج الجزائريين - فباستثناء بعض العلوم كعلم التصوف والحديث والآثار الفقهية والتي اقتصر مجال تدريسها في المساجد والزوايا والأوقاف، والتي اهتمت بالتصوف والمناقب الصوفية وغيرها نظرا لطبيعة المجتمع الجزائري المالكي المحافظ الذي تناول علمائه قضايا التصوف العامة كغيره من العالم الإسلامي- نجد قلة علوم أخرى كعلم المنطق مثلا والذي يعتبر إنتاجه قليل جدا بل نادر نوعا ما، فباستثناء علماء القرن الخامس عشر الميلادي أمثال ابن القنفذ و السنوسي و المغيلي، فإن ما بقي منسوبا إلى علماء الجزائر في العهد العثماني يكاد يُعد على أصابع اليد الواحدة، وينسب ذلك النقص إلى سببين رئيسسين الأول صعوبة هذا العلم، والثاني طغيان علم التصوف على الجزائريين .

قلت المؤسسات الثقافية في الجزائر العثمانية بل تكاد تنعدم في تلك الفترة، حيث تم التركيز على التعليم في الزوايا والكتاتيب، أكثر من الاهتمام بالثقافة كمفهوم عام فكثرت المساجد والكتاتيب والتي ساهم في بنائها السكان من أعيان ومجهودات فردية بالتبرعات وغيرها، والتي أبدع في تشييدها إلى درجة الإتقان، فالعثمانيون أولوا عناية فائقة لها وتحبيس الأوقاف عليها، وأهملوا العمران وركزوا على التعليم المسجدي وتأمين الموارد لحمايتها، والإنفاق على إقامة الشعائر الدينية وكل ما يتعلق بهذا الجانب دون سواه .

تعددت المناسبات الدينية والاحتفالات في عهد الدولة العثمانية بالجزائر، كما انتشرت المدارس في الجزائر و قسنطينة التي عرفت إشعاعا ثقافيا في عهد صالح باي الذي أسس المدرسة الكتانية سنة 1776م لتعليم مختلف العلوم، كما انتشرت المدارس في عهده في كل من عنابة و جيجل في الشرق، أما في الغرب فقد استفادت مدارسه من إصلاحات الباي محمد الكبير الذي أسس المدرسة المحمدية في معكسر، حيث وصفها ابن سحنون "كاد العلم أن يتفجر في جوانبها"، كما أصبحت مازونة قبلة للعلماء والطلبة وقطبا من أقطاب العلم، واشتهرت بعلم الفقه والحديث وعلم الكلام .

على الرغم من أن الوقف الثقافي انتشر بشكل كثيف في الجزائر أثناء الوجود العثماني وتم الاهتمام به دون غيره، إلا أن هناك بعض المظاهر الثقافية الأخرى تم الاهتمام بها كفن الرسم والموسيقى، حيث استعمل أهل الريف آلات تقليدية كالطبلة والبندير والربابة والقانون وغيرها من هذا الفن , والذي اقتصر إحياء حفلات خاصة به في المقاهي والمناسبات الدينية والاجتماعية كالزواج والختان والمولد وغيره، هذا إلى جانب الشعر والأدب الشعبي والذي شاع بين الناس نتيجة لضعف العربية الفصحى بين الناس، فأصبح بذلك ميدانا لتفجير الكثير من المواهب، حيث برزت ولمعت العديد من الأسماء والشعراء تركوا بصماتهم في مجالاتهم المختلفة.

ومن بين المضامين التي عُرفت في تلك الفترة شعر المجون والمُزاح، وقد اشتهر فيه محمد بن أحمد بن راس العين، كما دخل في شعر اللهو الاجتماعي التلغيز أو استخدام الألغاز عن طريق الشعر، وقد اعتبره المؤرخ سعد الله أبو القاسم بأنه تخفيف من عبء الحياة، واختباراً للذكاء وتنشيطا للذهن، وقد ذكر بأن سعيد قدورة قد تبادل الألغاز مع أحمد المقري في لغز (هاج الصنبر)، وبأن الفكون كتب بأن المقري قد عجز عن الجواب الأول وتوصل إلى الحل والإجابة عن اللغز في مرحلة أخرى، وأنه قد نظم الإجابة شعرا .

وتجدر الإشارة أيضا أن الشعر الاجتماعي في جملته محدود الأغراض، وظلت العلاقات الشخصية تلعب دورا كبيرا في تحريك القرائح والتعبير عنها بأبيات من الشعر الجيد في أغلب الأحيان، وقد وردت أسماء للعديد من علماء وشعراء المغرب الذين تبادلوا مع علماء وشعراء الجزائر الإجازات والشعر والرسائل ومنهم ابن زاكور وأحمد الورززي وأحمد الغزال وغيرهم .

أما التاريخ فإن تعريفه عند المؤرخين الجزائريين ظل غامضا، فتارة يخلطونه بالدين، وتارة أخرى بالسيرة وبالعلم أحيانا وبقيمة الإنسان وسمعته الاجتماعية أحيانا أخرى، لكن ورغم ذلك فقد دافع الورتلاني عنه وبيّن فضله ومنزلته بين بقية العلوم، فالمؤرخون الجزائريون حصرت أعمالهم التاريخية على دراسة التواريخ المحلية والتراجم والرحلات، ولم يكتب أي واحد منهم تاريخا عاما للجزائر من القديم إلى الحديث أو حتى في القرن الذي يعيشه نظرا لأن العثمانيين لم يطوروا فكرة التواصل بين المؤرخ وبيئته، فبقيت البيئة عنده هي حدود القرية أو الناحية أو الحادث إذا كان مثلا يكتب عن فتح وهران من خلال حياة الوالي المسؤول عن ذلك .

وعلى العموم ورغم قلة المؤسسات الثقافية واقتصارها على المساجد والأوقاف، إلا أنه وجدت أسماء لجزائريين في ذلك العهد، أعلام للفكر والثقافة لا يمكن إغفال دورهم في العمل المسجدي، اهتموا بتعليم القرآن الكريم للأطفال، وتعليم العلوم الدينية والأدبية للكبار، ونذكر على سبيل الذكر لا الحصر بعض هؤلاء وهم الشيخ يحي العيدلي والولي الصالح يحي بن موسى والشيخ محمد الصالح الورتلاني، والحسين الورتلاني وغيرهم .

أسباب وعوامل انتشار التعليم في المدن الجزائرية