مظاهر المقاومة الثقافية مع نهاية القرن 19 وبداية القرن 20
مع نهاية فترة المقاومات الشعبية التي قادها الجزائريون ضد الاستعمار منذ ثورة الأمير عبد القادر الجزائري، وإلى غاية آخر انتفاضة في الأوراس سنة 1916م، بدأت مرحلة أخرى من مراحل الكفاح والتي تمثلت في ظهور جماعات من الأعيان وكبار المُلاك والمواطنين الجزائريين قادت معركة ظاهرها غير سياسي، ولكن باطنها يهدف إلى تحقيق أغراض سياسية بتقديمها لعرائض وأشكال جديدة من المطالب الجماعية المقدمة للسلطات الرسمية الفرنسية من أجل احترام القضاء الإسلامي، والتعليم العربي، واحترام الحالة المدنية، وكذلك رفع اليد عن الضرائب التي أهلكت كاهل السكان وإلغاء القوانين الاستثنائية والزجرية وغيرها .
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى مباشرة تبلورت العديد من الأفكار في مخيلة بعض النخب الجزائرية، وزادت ضغوطهم السياسية أكثر من ذي قبل، ومنظمة أكثر فأكثر من أجل معارضة القوانين الفرنسية، ولعل أهمها قانون التجنيد الإجباري المفروض على الشباب الجزائري منذ سنة 1912م، والذي تبناه تيار معارض إسلامي المنطق سياسي الهدف، هذا دون أن ننسى تيار النخبة الجزائرية، حيث مثّل هذا الأخير وفد هام سافر إلى فرنسا من أجل إبداء وجهة نظره في قبول مبدأ قانون التجنيد الإجباري بصفة خاصة، والوضع السياسي العام في الجزائر بصفة عامة، وما قبوله لقانون التجنيد الإجباري إلا بالموازاة مع تحقيق مبدأ المساواة بين الجزائريين والفرنسيين في الواجبات والحقوق .
إن ظهور بعض التيارات السياسية بما فيها النخبة الجزائرية قد أعطت تصورا جديد للحركة الوطنية الجزائرية التي واكبت بعض التطورات الجديدة في العالم ككل، فظهور الجامعة الإسلامية في الشرق الأدنى والاشتراكية في أوروبا، والتنافس الأوروبي في إطار الأمبريالية العالمية، حتمت تغييرا جديدا في المناورات نظرا لأن التيارات العالمية السالفة الذكر أعطت دفعا قويا لبعض الوطنيين الذين رأو بضرورة إتباع وسلوك طريقة جديدة من أجل التحرر من هيمنة وغطرسة الاستعمار الفرنسي .
تأكدت فرنسا الاستعمارية من صعوبة عملية إدماج الجزائريين، واتضح لها بأن إدماج الأهالي ثقافيا مع الفرنسيين يتطلب بعض التضحية من الجزائريين أنفسهم، واعتبرت أن تلك العملية ما هي إلا شرط أساسي لمنحهم بعض الحقوق المدنية، مع ضرورة توخي الحذر حين الجنوح إلى التمييز بين طائفتين، الأولى طائفة النخبة المتفاوتة التطور، والثانية طائفة العموم الذين ظلوا على همجيتهم بحسب إدعاءاتها .
كشفت إحصائيات جامعة الجزائر عن توجه أغلبية الطلبة المسلمين نحو فروع الآداب والحقوق، وبسيطرة مُطلقة للدراسات الأدبية في الفترة ما بين (1910-1915م) على بقية التخصصات الأخرى، ثم الدراسات القانونية في مرتبة ثانية، وأخيرا الدراسات الطبية، ومرد ذلك هو طبيعة شهادة الأهلية العربية الممنوحة لخريجي المدارس العربية أو للموظفين، أما طلبة الآداب الذين يتقدمون للحصول على شهادة باللغة العربية فكان عددهم قليل .
نظرا للحواجز الشرعية التي أقامتها فرنسا بين الجزائريين والتعليم العربي من أجل إركاعهم و تجهيلهم، أغلقت كل المنافذ وحاربت كل ما يتعلق بالثقافة والهوية العربية الإسلامية مما حتم على الجزائريين خلق الفرص والسعي للقيام بنهضة شعبهم وأبناء وطنهم خاصة مع مطلع القرن العشرين، أين ظهرت بوادر ثورة علمية عربية إسلامية قادها مجموعة من الأدباء العرب فشيدت مراكز ونوادي ثقافية، كما اهتمت بعض الجمعيات التنويرية بالإضافة إلى الصحافة بهذا الجانب، كما استعملت قضية التعليم كوسيلة ضغط في مطالبهم من فرنسا، حيث شغلت المجالس المحلية والمحاضرات والعرائض والصحافة اهتمامهم، كما تمت دعوة الشعب إلى التحلي بروح اليقظة والعمل والتقدم لأن النهضة لن تنجح من دون التعليم، هذا طبعا بالإضافة إلى مساهمة الشعر والأدب الشعبي والرسم والموسيقى والمسرح في قيام نهضة ثقافية شاملة .
ساهمت العديد من الظروف الدولية والإقليمية في استعادة الشعب الجزائري لأنفاسه في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أين ظهرت الجمعيات والنوادي الاجتماعية والثقافية والتي اعتبرت كبذور لنهضة جزائرية أدت وظيفة المدرسة التي غيّبها الاستعمار، فكانت بذلك تلك النوادي والجمعيات خلوة للأحاديث وملتقى اجتماعي وثقافي وكشفي وحتى مقار للنشاطات السياسية والمنابع الفكرية، أين تبلور الوعي السياسي والثقافي بالنسبة للحركة الوطنية الجزائرية .
كما عقد الجزائريون سلسلة اتصالات مع تنظيمات نشطة خارج البلاد، وخير دليل على ذلك اشتراكهم وتواصلهم مع علي باش حانبة في لوازان، أين طالبوا بالحكم الذاتي لبلدان إفريقيا الشمالية، كما اشتركوا بجنيف في "لجنة استقلال الجزائر وتونس"، وخلال تلك الفترة استخلص الجزائريون الدرس جيدا بعد أن تفهموا الوطنية بمفهومها المعاصر وربطها بثلاثة عناصر أساسية وهي: الدين، اللغة، الوطن.
وانطلقت منذ عام 1916م أولى الطلائع الجزائرية المتشبعة بالروح الوطنية وتوقظ الهمم داعية إلى:
- العلم والتعلم والتثقف.
- التطور في حدود القيم العربية الإسلامية.
- الاعتزاز بالإسلام والتضامن الإسلامي.
- التمسك بالأصالة الجزائرية.
- التعريف بالشخصيات والتاريخ الجزائري.
- تقديم المطالب والمناداة بالإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي، منددة بالتجنيد الإجباري والتجنيس والاندماج والخرافات والبدع والتنصير والتبشير المسيحي وكل القوانين الجائرة، وتفشي الآفات الاجتماعية والظلم الاجتماعي والإداري .
إن انتعاش الاتصال الفكري والثقافي بين دول المشرق والمغرب عن طريق العديد من الآليات، ومن بينها الصحافة والمجلات والجرائد ومؤتمرات الحج، واجتماعات ولقاءات الحجاج والمثقفين، وكذلك نشاط الأزهر وجامع الزيتونة بتونس، أسهمت كلها في ظهور جماعة العلماء والفقهاء والوطنيين والذين تبنوا فكرة بعث نهضة جزائرية ركيزتها تكوين الرجال الذين سيتم على أيديهم الاستقلال .
وقد ركز هؤلاء النشطاء على التعليم والثقافة كركيزة أساسية لمحاربة الاستعمار والبدع والخرافات التي أسهم في نشاطها بين جموع الشعب، فألتقى بذلك هؤلاء المُصلحين في مباشرة مهامهم التعليمية والتثقيفية، وتحت مسؤوليتهم ورغم الجراح والظروف الصعبة ظهر جيل جديد استوعب الدرس جيدا وسعى لمواصلة مسيرة مقاومة المحتل الفرنسي، ومن أمثال هؤلاء نذكر: عبد الحميد بن باديس، البشير الإبراهيمي، الطيب العقبي، الشيخ الزاهري، ومحمد راسم، والميلي، وأبو شنب، وغيرهم الكثير من رواد الحركة الوطنية المقاومة للاستعمار بالعلم .
أحدثت النهضة العربية ثورة ثقافية في الجزائر فأدرك الاستعمار إدراكا تاما مدى خطورتها عليه، فأعلن الحرب على مُدرسي اللغة العربية وصب عليهم أسواط العذاب وقذفهم بالتهم، وألحق بهم المكائد والأذى كمظهر من مظاهر صراع عنيف ظل قائما بين اللغة العربية واللغة الفرنسية الدخيلة على ثقافة المجتمع الجزائري الذي أقبل إقبالا كبيرا على القيام بثورة في الأفكار اشتدت وازدادت مع مرور الوقت، فلعبت المراكز الثقافية دورا إيجابيا في تثقيف الجزائريين وتعليمهم، ويعد نادي الترقي بالجزائر العاصمة أهم تلك النوادي التي كانت مزاراً لاجتماعات العلماء الجزائريين وميدانا للنشاط الأدبي أين استقبل رجالات الفكر والأدب من سائر ربوع الجزائر وعمومها، فامتلأت بذلك مدرجاته الفسيحة ونشطت فيه خُطب الإمام عبد الحميد ابن باديس، وخير دليل على ذلك ما ذكره الزاهري عن تلك الخُطب فيقول: "... ثم قام الأستاذ (ابن باديس) مرة أخرى، وعرض على الناس الحركة الأدبية للجمعية في خطاب استثار الحماسة والحمية في النفوس، والنخوة في الرؤوس، وأسال من العيون الدموع والغيرات، وكان خطابا مُحكما وجيزا، وكان آية من آيات البيان" .
شهدت فترة العشرينيات من القرن العشرين بداية مرحلة جديدة ومقاومة جديدة تمثلت في المقاومة الثقافية والتي قادها العلماء المسلمون الجزائريون الذين هيكلوا أنفسهم تحت لواء جمعية أُطلق عليها "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين"، قادها العلامة عبد الحميد ابن باديس، وتأسست بتاريخ 05 ماي 1931م عقب الاحتفالات الفرنسية بمرور مائة عام من احتلال الجزائر، والتي أثارت سخط وغضب الجزائريين، فكان تأسيسها في ذلك الظرف بالذات هو إعلان عن بعث مشروع ثقافي وطني الهدف منه الرد على أوهام المؤرخين الفرنسيين الذين أنكروا هوية وأصالة الشعب الجزائري العربي المسلم، وفي ذلك يقول الإمام ابن باديس "... من المعلوم أن الأمة الجزائرية هبت بعد مرور قرن من الاحتلال لتأخذ قسطا من الحياة، من نواحي عديدة، وخصوصا الناحية الدينية والعلمية" .
قادت الجمعية نشاطا إصلاحيا ثقافيا من أجل تعليم أبناء الشعب، فجاء شعارها صارخاً ومدوياً في وجه فرنسا، وبداية للطريق السليم الذي رسمه قادتها من أجل إعلاء صوت الحق فالإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا، عبارات أيقظت ضمائر بعض من تفرنس ونسي بأن الأرض جزائرية وستبقى كذلك، فوضع بذلك البشير الإبراهيمي دستورها وقانونها الأساسي وأصبح نائبا لابن باديس، ومنذ عام 1933م اختار مدينة تلمسان كمركز للإشعاع الفكري ولنشاطه المكثف، وأسس بعدها بأربع سنوات دار الحديث بتلمسان سنة 1937م .