الحركات المذهبية بالغرب الاسلامي
Options d'inscription
محاضرات مقياس الحركات المذهبية بالغرب الاسلامي
البعثة العمرية
شعر القادة الفاتحون للمغرب العربيّ بأهمية وجود من يُعَلِّم أهل المغرب الدّين الإسلاميّ و علومه المختلفة، ولاسيما لمّا اتسعت البقاع المفتوحة، وكثر الإقبال على الدّين الإسلاميّ، ولم يعد بالإمكان الاعتماد على بعض الصحابة أو التّابعين في تعليم النّاس، بل أصبح من الضّروري بعث العلماء والقرّاء إلى البلاد المفتوحة لتعليم أهلها أمور الدّين، وأبرز من جسّد هذا بشكل واضح ورسميّ؛ الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، وذلك بإرساله الإمام المفتي الثّبت، عالم المدينة (نافعاً) مولى ابن عمر إلى مصر، فعن عبد الله بن عمر: بعث عمر بن عبد العزيز نافعاً مولى ابن عمر إلى أهل مصر يعلّمهم السّنن ].
وأرسل كذلك بعثة علميّة إلى الشّمال الإفريقيّ مكونة من 10 فقهاء من رجال التّابعين، ليفقّهوا أهله ويعلّموهم، وينشروا بينهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لينالهم من الخير مثل الّذي عمّ إخوانهم من أهل الحجاز والشّام والعراق، وكانت معاقل العلم، وكان قد عين على الشّمال الإفريقيّ أميراً ورعاً تقيّا، أسلم على يديه جميع البربر ، فكان خيرَ معين لهؤلاء العلماء في رسالتهم، والسّبب الرّئيس في إرسال هذه البعثة، ما لاحظه من أنّ شيوع الإسلام في تلك البقاع لم يكن إلاّ أمراً سطحياً لا يقيها كيد الكائدين، ولا يحقق فيها ما يشدّ أمر الدين ، فكان بحق ما أراده من وراء إرساله لها، حيث كان لهذه البعثة أثر كبير في نشر تعاليم الإسلام يقول في ذلك عبد الوهاب حسن حسني:
“اختطَّ كل واحد منهم داراً لسكناه، وبنى بحذائها مسجداً لعبادته ومجالسه، واتّخذ بقربه كُتَّاباً لتحفيظ القرآن، وتلقين مبادئ العربيّة لصغار أطفال البلد، وأشاعوا الرشد، وعلّموا الحلال والحرام، وحرصوا على الأمن والتآخي، فكان إسلام البربر نهائيا من آثار هذه البعثة الكريمة” ] .
أولا: أهداف بعثة عمر بن عبد العزيز التّعليمية والتّربوية.
وضع الخليفة عمر بن عبد العزيز خطّة تعليميّة تربويّة لنشر الإسلام في الشّمال الإفريقيّ، كان أهم أهدافها [5] :
اختيار علماء ربانيّين اشتهروا بالعلم والفقه والدعوة والتّجرد للإشراف على التّربية والتّعليم.
وضع خطّة بعيدة المدى لنشر تعليم اللّغة العربيّة، ومحو الأميّة في أوساط القبائل البربريّة، حتى يسهل عليها بعد ذلك فهم القرآن والسّنة والتّعامل معهما.
الاهتمام بربط النّاس بالقرآن المجيد، ويكون ذلك بفتح الكتاتيب.
البلاغ الواضح البين لعقائد أهل السّنة.
تعليم النّاس الحلال والحرام.
وبهذه الخطّة تمّ التّنفيذ، وذلك بإرسال عشرة من أفضل فقهاء التّابعين ذوي الصّفات المطلوبة؛ العلميّة، والتّربوية، وتوجّهت هذه البعثة العلميّة الدّعوية نحو الشّمال الإفريقيّ لتحقيق أهدافها المسطّرة، وحطّت رحالها بمدينة القيروان، واستطاعت في مدّة وجيزة أن تبلّغ دعوة الله تعالى إلى جميع أبناء تلك الأصقاع، بدليل أنّ الخمرة كانت منتشرة كأنّها حلال عند أهل إفريقيّة، حتى قدم هؤلاء الفاتحون فعلم النّاس أنّها حرّمت.
ثانيا: عوامل وأسباب نجاح بعثة عمر بن عبد العزيز العلمية [6].
الحالة السّياسيّة والأمنيّة المستقرّة الّتي تميّزت بهدوء نسبي، شكّل حلقة من حلقات الاستقرار المعرفيّ العلميّ.
الحالة النفسيّة الفكريّة لأفراد البعثة العلميّة، مما ولّد الدافع لنشر الدعوة بكلّ صدق وتضحية.
الحالة السّلوكيّة الحركيّة حيث أدرك أفراد البعثة أنّ هذا الدّين لا ينشر باللاّفتات والشّعارات، بل بالمثابرة والاجتهاد، وصيانة الفعل قبل القول.
قيمة تعاليم الإسلام في حدّ ذاتها، وعدالة أحكامه، وسماحة نصوصه، وجمالية أخلاقه.
ثالثا: ترجمة الأمير وأفراد البعثة العلمية [7].
عيّن الخليفة عمر بن عبد العزيز على الشّمال الإفريقيّ أميرا صالحا وأرسل معه نسعة من الفقهاء العلماء الربانيين ، فكان تعداد البعثة بالأمير عشرة، وإليك ترجمة الأمير والفقهاء :
الأمير: إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر:
ولاّه عمر بن عبد العزيز على إفريقية في المحرم سنة 99 ـ 100هـ، فكان خير أمير، قال ابن خلدون:
“وأسلم جميع البربر في أيامه “[8]،
وأرسل معه تسعة من فقهاء التابعين وعلمائهم يفقّهون النّاس في أمور الدّين، ويبيّنون لهم الحلال والحرام، وكان هذا الأمير في غاية الزهد والتّواضع، وكان حريصاً على نشر العلم، وسار في أهل البلاد بسيرة العدل، وكان شديد الحفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى عنه ابن عساكر أنّه قال:
” ينبغي لنا أن نحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نحفظ القرآن” [9]،
وأخرج له البخاري ومسلم وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وأحمد، وغيرهم. ومكث في القيروان معلّماً للنّاس، ناشراً للسنة، لمدّة ثلاث وثلاثين سنة، حيث توفي بها سنة 131هـ، وقد جمعت شخصية إسماعيل رحمه الله، الكفاءة، والعلم والورع، فأنتجت هذه الثّمار الّتي ساهمت في ترسيخ الإسلام في شمال إفريقيا.
أفراد البعثة العلمية:
أبو ثمامة بكر بن سوادة الجذامي ( ت 128 هـ بإفريقية ):
أقام في الشمال الإفريقي أكثر من ثلاثين سنة محدّثاً ومفتياً، وفقيهاً وقد انتفع به أهلها، ورووا عنه، أدخل على القيروان حديث عدد من الصّحابة، منهم: عقبة بن عامر، وسهل بن سعد الساعدي، وسفيان بن وهب الخولاني، كما روى عن جماعة من التاّبعين منهم: سعيد بن المسيب وابن شهاب الزهري، وقد قارب شيوخه الأربعين، وروى عنه كثير من أهل القيروان منهم: عبد الرحمن بن زياد، وأبو زرعة الإفريقي وكان ثقة في حديثه، أخرج له مسلم والأربعة، والبخاري تعليقاً، وأحمد، والطبراني، وغيرهم. وقد عدّ أبو ثمامة بكر بن سوادة الجذامي في المصريين رغم طول مكثه بالقيروان ووفاته بها.
أبو سعيد جُعثلُ بن عاهان الرُّعيني القتباني ( ت حوالي 115 هـ):
تابعي جليل، عدّه أبو العرب وابن حجر وغيرها في التّابعين، ولم يذكروا عمن روى من الصّحابة، وكان محدّثاً، فقيهاً مقرئاً، تولىّ قضاء الجند بالقيروان، وبث فيها علماً كثيراً لمدة زادت عن خمسة عشر عاماً، وروى عنه من أهل القيروان عبيد الله بن زحر، وعبد الرحمن بن زياد، وبكر بن سوادة، وهو زميله في البعثة العلميّة، وثّقه أكثر النقاد، وأخرج له الأربعة وأحمد وغيرهم. توفي في خلافة هشام بن عبد الملك سنة 115 هـ.
حبان بن جبلة القرشي (ت 125 ـ وقيل 122 هـ):
بعثه عمر رضي الله عنه لتفقيه أهل القيروان، روى عن جملة من الصّحابة منهم: ابن عباس ، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، ووالده عمرو، وبقي يبثّ العلم في عاصمة الشّمال الإفريقيّ في مدينة القيروان أكثر من خمس وعشرين سنة، انتفع به أهلها، وروى عنه خلق كثير منهم؛ عبد الرحمن بن زياد، وعبيد الله بن زحر، وموسى بن علي بن رباح وغيرهم، وثّقه أبو العرب الصقلي في طبقاته، وذكره ابن حبان في الثقات، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وابن سنجر في مسنده، والحاكم في المستدرك، وغيرهم.
أبو مسعود سعد بن مسعود التجيبي (ت بالقيروان):
يروي عن جماعة من الصّحابة، منهم: أبو الدرداء، ويروي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً حتىّ توهّم بعضهم فعدّه في الصّحابة، ولذلك نبهت معظم المصادر على أنّه لا صحبة له، وقد سكن القيروان وبثّ في الشّمال الإفريقي علماً كثيراً، وقد كانت مجالسه مليئة بالحكم والمواعظ البليغة، وكان شديداً على الأمراء، روى عنه من أهل القيروان: مسلم بن يسار الإفريقي، وعبيد الله بن زحر، وعبد الرحمن بن زياد، في جامع ابن وهب وغيره، وذكر الدباغ أنّه توفي بالقيروان بعد أن بثّ فيها علماً كثيراً، ولم يذكر تاريخ وفاته.
طلق ابن جعبان الفارسي:
تابعي جليل، لقي عمر وسأله، وأكثر روايته عن التّابعين كان فقيهاً عالماً، وروى عنه من أهل القيروان: موسى بن علي، وابن أنعم، ولم يذكروا مدة إقامته بها، ولا تاريخ وفاته.
أبو الجهم عبد الرحمن بن رافع التنوخي (ت بالقيروان سنة 113 هـ):
دخل القيروان في وقت مبكّر، سنة 80هـ، وهو أجل قضاتها، وذلك على عهد حسان بن النعمان، واستمّر يبثّ فيها العلم ما يقارب ثلاثاً وثلاثين سنة، حتىّ انتفع به خلق كثير من أهلها، وقد أدخل إلى القيروان حديث جماعة من الصّحابة عرفنا منهم: عبد الله بن عمرو بن العاص، وحدث عنه من القرويين: عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، وعبد الله بن زحر الكناني، وبكر بن سواد الجذامي وغيرهم. وهو أوّل من ولّي قضاء القيروان.
أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المعافري الحبلي (ت بالقيروان 100هـ):
دخل القيروان في زمن مبكّر، ولعل ذلك كان مع موسى بن نصير سنة 86هـ لأنه شهد فتح الأندلس، ثمّ عاد إلى القيروان وسكنها، وبنى بها داراً ومسجداً، ثمّ عُيّن ضمن أفراد البعثة العلميّة إلاّ أنّ وفاته كانت سنة 100هـ، أي بعد سنة واحدة من التّكليف الرّسميّ.
ومع ذلك فقد قال عنه المالكي: “فانتفع به أهل إفريقيّة،وبثّ فيها علماً كثيراً، وأدخل القيروان حديث جماعة من الصّحابة ممن لم يدخلها، وزاد في إفشاء حديث من دخلها منهم، حدّث عن ابن عمر وعقبة بن عامر، وابن عمرو، وأبو ذر، وروى عنه من أهلها عبد الرحمن بن زياد، وأبو كريب جميل بن كريب القاضي وغيرهما، كان رجلاً صالحاً ورعاً شديد الإقبال على نشر السّنة، وكان تأثيره في الحياة العلميّة ـ خاصة الجانب الحديثيّ منها ـ بالقيروان كبيراً، وقد بنى فيها مسجداً لمجالسه العلميّة أجمع النّقاد على توثيقه، وحديثه عند مسلم، والأربعة، وابن وهب في جامعه، وأحمد، وغيرهم.
وهب بن حي المعافري:
ذكر ابن أبي حاتم أن هناك من قلبه إلى: حي بن موهب، وأنّ أبا زرعة قد صحّح ذلك، غزا إفريقيّة قديماً، لأنّه سأل ابن عباس المتوفىّ عن آنية أهل المغرب كما في الريّاض والمعالم، وهو من أفراد بعثة عمر، وقد سكن القيروان، وبثّ فيها علماً كثيراً، وبها كانت وفاته، وقد أدخل إلى القيروان حديث ابن عباس وغيره، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وروى عنه من أهل القيروان عبد الرحمن بن زياد الإفريقيّ، ولم تظهر المصادر حاله من حيث التّعديل والجرح.
إسماعيل بن عبيد الأنصاري ت107هـ:
يعرف بتاجر الله، من أهل الفضل والعبادة، كثير الصّدقة والمعروف، عالم فقيه، صحب جماعة من الصّحابة وروى عنهم، كعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عباس، و روى عنه من أهل إفريقية بكر بن سوادة الجذامي، وعبد الرحمن بن زياد، و كان من سكّان القيروان، انتفع به خلق كثير من أهلها، وبثّ فيها علماً كثيرا، ولم يزل مقيماً بالقيروان حتىّ توفي بها.
آثار مهمة لهذه البعثة العلمية:
كان لهؤلاء العشرة آثار هامّة في القرآن الكريم وتفسيره، والحديث النبويّ، وفي نشر السنّة العمليّة والإعتقاديّة الصّحيحة، وساعدوا ولاة أمور المسلمين على مقاومة النّحل الخارجيّة، وتركيز أحكام الإسلام بين البربر [10]، حيث كانوا مع حنظلة ابن صفوان لمّا ثار ميسرة المدغري الصفري الخارجي بطنجة سنة 122هـ [11]، فلقد جمع حنظلة علماء إفريقية، وهم الّذين بعثهم عمر بن عبد العزيز إلى إفريقية ليفقّهوا أهلها، منهم سعد بن مسعود التجيبي، وحبان بن جبلة القرشي، فكتبوا هذه الرسالة ليقتدي بها المسلمون، ويعتقدوا ما فيها:
” فإنّ أهل العلم بالله وبكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم يعلمون أنّه يرجع جميع ما أنزل الله عز وجل إلى عشر آيات: آمرة، وزاجرة، ومبشرة، ومنذرة، ومخبرة، ومحكمة، ومتشابهة، وحلال وحرام، وأمثال، فآمرة بالمعروف وزاجرة عن المنكر، ومبشرة بالجنة، ومنذرة بالنار، ومخبرة بخبر الأولين، والآخرين، ومحكمة يعمل بها، ومتشابهة يؤمن بها، وحلال أمر أن يؤتى، وحرام أمر أن يجتنب، وأمثال واعظة فمن يطع الآمرة وتزجره الزاجرة فقد استبشر بالمبشرة وأنذرته المنذرة، ومن يحلل الحلال ويحرم الحرام، ويرد العلم فيما اختلف فيه الناس إلى الله، مع طاعة واضحة ونية صالحة فقد فاز وأفلح وأنجح وحيا حياة الدنيا والآخرة والسلام”[12]
إنّ هذه الرّسالة تعتبر وثيقة عظيمة الأهميّة، إذ تدلّ على أصالة علم هذه البعثة العلميّة، ووضوح أهدافهم الشّرعية أمامها، حتىّ أنّهم أوجزوا فحوى الرّسالة، ونظراً لعظيم فائدتها عمّمت على أن تقرأ على منابر المساجد في جميع ضواحي إفريقيّة.
الخوارج في الغرب الاسلامي:
ضاق الأمازيغ ذرعًا بجباة الضرائب الأمويين. يُذكر أنه بناءً على تعليمات عبيد الله بن الحبحاب بجني المزيد من العائدات من الأمازيغ، قرر عمر بن المرادي، نائبه في طنجة، إعلان الأمازيغ في سلطته «شعبًا محتلاً» وبالتالي شرع بالاستيلاء على ممتلكات الأمازيغ والأشخاص المستعبدين، وفقًا لقواعد الغزو، كانت ضريبة «الخُمس» ماتزال مستحقة تجاه الدولة الأموية (تشير الروايات البديلة إلى أنه ضاعف جزيتهم ببساطة).
كانت تلك القشة التي قسمت ظهر البعير. قررت قبائل شمال إفريقيا البربرية الواقعة في غرب المغرب -في البداية الغمارة وبورغواطة ومكناسة- إشعال الثورة علنًا ضد أسيادهم العرب مُلهمين من الدعاة الصفريين. اختاروا ميسرة المطغري قائًدا لهم، والذي زعم بعض المؤرخين العرب أنه ناقل مياه بائس (لكنه على الأرجح زعيم بربري مطغري عالي الشأن).
المسألة الوحيدة المتبقية هي التوقيت. سنحت الفرصة في أواخر عام 739 أو أوائل عام 740 (122 هـ)، عندما تلقى القائد الإفريقي القوي حبيب بن أبي عبيدة الفهري، الذي كان قد فرض سلطته مؤخرًا على وادي سوس جنوب المغرب، تعليمات من والي القيروان عبيد الله لقيادة حملة كبيرة عبر البحر ضد صقلية البيزنطية. جمع حبيب بن أبي عبيدة قواته، وسار بالجزء الأكبر من الجيش الإفريقي خارج المغرب.
حالما ذهب حبيب الجبار بأمان، جمع ميسرة تحالفه من الجيوش الأمازيغية من حليقي الرؤوس بطريقة الخوارج الصفرية مع نقوش قرآنية مربوطة بحرابهم ورماحهم، وأمرهم بمباغتة طنجة. سرعان ما سقطت المدينة في أيدي المتمردين وقتل الحاكم المكروه عمر المرادي. في هذه المرحلة قيل إن ميسرة قد اتخذ لقب أمير المؤمنين أو «الخليفة». بعد مغادرة حامية أمازيغية في طنجة بقيادة عبد الله الحديج الإفريقي، شرع جيش ميسرة باجتياح غرب المغرب وتضخيم صفوفه بأتباع جدد وسحق الحاميات الأموية من مضيق جبل طارق حتى السوس. كان إسماعيل بن عبيد الله، نجل أمير القيروان، أحد الحكام المحليين الذين قُتلوا على يد الأمازيغ.
فاجأت الثورة الأمازيغية الوالي الأموي في القيروان، عبيد الله بن الحبحاب الذي امتلك عدد قليل جدًا من القوات تحت تصرفه. بعث على الفور رُسلًا إلى قائده الحبيب بن أبي عبيدة الفهري في صقلية وأمره بإيقاف الحملة وإعادة الجيش الإفريقي على الفور إلى إفريقيا. في غضون ذلك، حشد عبيد الله رتلًا ثقيلًا من سلاح الفرسان، مؤلفًا من النخبة العربية الأرستقراطية في القيروان. وضع النبلاء تحت قيادة خالد بن أبي حبيب الفهري، وأرسله إلى طنجة لاحتواء المتمردين الأمازيغ، في انتظار عودة حبيب من صقلية. وُضع جيش احتياطي أصغر تحت قيادة عبد الرحمن بن المغيرة العبدري وأُمر بالدفاع عن تلمسان في حال اختراق جيش المتمردين الأمازيغ الرتل ومحاولتهم السير نحو القيروان.
واجهت قوات ميسرة الأمازيغية طليعة الرتل الإفريقي لخالد بن أبي حبيب في مكان ما في ضواحي طنجة بعد مناوشات وجيزة مع الرتل العربي، أمر ميسرة فجأة الجيوش الأمازيغية بالتراجع إلى طنجة. لم يستسلم قائد سلاح الفرسان العربي خالد بن أبي حبيب، لكنه أوقف صفوفه جنوب طنجة محاصرًا المدينة التي يسيطر عليها البربر في انتظار التعزيزات من حملة صقلية بقيادة حبيب.
خلال هذا المتنفس، أعاد المتمردين الأمازيغ تنظيم صفوفهم وقادوا انقلابًا داخليًا. سرعان ما خلع زعماء القبائل الأمازيغية ميسرة وأعدموه وانتخبوا زعيم قبيلة زناتة الأمازيغي خالد بن حامد الزناتي ليكون «الخليفة» الأمازيغي الجديد. مايزال الغموض يلف أسباب سقوط ميسرة. من المحتمل أن الخوف المفاجئ أمام رتل سلاح الفرسان العربي أثبت عدم كفاءته عسكريًا، ربما لأن الدعاة الصفريين المتزمتين وجدوا عيبًا في تقوى شخصيته، أو ربما ببساطة لأن زعماء قبيلة زناتة شعروا بأنهم يستحقون قيادة الثورة كونهم أقرب إلى جبهة إفريقية.
اختار الزعيم الأمازيغي الجديد خالد بن حامد الزناتي مهاجمة الرتل الإفريقي الخمول على الفور قبل تعزيزه. سحق المتمردون الأمازيغ بقيادة خالد بن حامد وأبادوا سلاح الفرسان العربي لخالد بن أبي حبيبة في مواجهة عرفت باسم معركة النبلاء نتيجةً لمذبحة صفوة النبلاء العرب الإفريقيين. هذه الواقعة مؤرخة مؤقتًا بين أكتوبر-نوفمبر، نحو العام 740.
تُظهر الاستجابة العربية الفورية على الكارثة فجائية هذا الانقلاب. مع الخبر الأول لهزيمة النبلاء، أصيب الجيش الاحتياطي لابن المغيرة في تلمسان بالذعر. عند رؤية الدعاة الصفريين في كل مكان في المدينة، أمر القائد الأموي قواته العربية المتوترة بإجراء سلسلة من الاعتقالات في تلمسان، انتهى العديد منها بمذابح عشوائية. أثار هذا انتفاضة شعبية واسعة في المدينة الهادئة حتى تلك اللحظة. سرعان ما طرد سكان المدينة الأمازيغ القوات الأموية. انتقلت جبهة ثورة البربر الآن نحو منطقة المغرب الأوسط (الجزائر).
وصل الجيش الصقلي للحبيب بن أبي عبيدة، لكن الأوان كان قد فات لمنع مذبحة النبلاء. بعد أن أدركوا أنهم ليسوا في وضع يمكنهم من مواجهة الجيش الأمازيغي بأنفسهم، تراجعوا إلى تلمسان لجمع الفرق الاحتياطية ليجدوا أن تلك المدينة أيضًا انحدرت لحالة من الفوضى الآن. هناك، التقى حبيب بموسى بن أبي خالد، وهو قائد أموي راوح مكانه بشجاعة بالقرب من تلمسان جامعًا القوات الموالية التي أمكنه إيجادها. كانت حالة الذعر والارتباك شديدة لدرجة أن حبيب بن أبي عبيدة قرر إلقاء اللوم على القائد البريء بتسببه الفوضى بأكملها وقطع إحدى يديه وإحدى ساقيه عقابًا له.
حصّن حبيب بن أبي عبيدة ما تبقى من الجيش الإفريقي في محيط تلمسان (ربما حتى تيارت)، وناشد القيروان بإرسال تعزيزات. وأُحيلت الدعوة إلى دمشق.
قيل إن الخليفة هشام، عند سماعه النبأ الصادم، هتف: « والله لأغضبنَّ لهم غضبة عربية ولأبعثنَّ جيشًا أوله عندهم وآخره عندي
!» بوفاة عقبة بن الحجاج -رحمه الله- آلت ولاية الأندلس إلى عبد الملك بن قَطَن الفِهْرِيّ مرَّة ثانية 123هـ=742م [2]، وقد حفلت ولايته الثانية هذه بأحداث جسام، كادت أن تعصف بالإسلام في الأندلس كلية، كان أخطرها تجدُّد الصراع العنصري البغيض بين العرب والأمازيغ البربر، وظهور طائفة الخوارج، الذين أشعلوا أُوَار[3] الحرب وقادوا الثورة على عمال بني أمية، الذين أساءوا استعمال السلطة والمعاملة مع الأمازيغ (البربر)؛ مما أتاح للأمازيغ (البربر) اعتناق تلك الأفكار الخارجة عن الدين؛ فقد وجدوا فيها مناصًا لنيل حقوقهم المغتصبة من جَوْر الولاة[4].
بدأت الفتنة الأمازيغية (البربرية) الكبرى في المغرب العربي على يد الخوارج، الذين تغلغلوا في صفوف الأمازيغ البربر ونشروا تعاليمهم، التي لاقت قبولاً واسعًا في المجتمع الأمازيغي البربري، الذي يُعاني من ظلم الولاة، فخرجوا بقيادة زعيمهم ميسرة المطغري –أو المدغري- على حاكم طَنْجَة عمر بن عبد الله المُرَادِيّ ;وقتلوه، وزحفوا إلى بلاد السوس في الغرب وقتلوا عاملها إسماعيل بن عبيد الله[5]، كان لكل هذا وقع الصدمة على عبيد الله بن الحبحاب والي إفريقية، فجمع جموعه وجيَّش جيوشه؛ ليتدارك الأمر قبل فواته وتعاظم قوَّة الخارجين عليه، فالتقى الفريقان من العرب والأمازيغ البربر عند وادي شليف، وكانت الهزيمة المنكرة للعرب؛ فقد قُتِلَ فيها أشرافهم وفرسانهم وأبطالهم؛ لذلك سميت بمعركة الأشراف وذلك سنة 123هـ=742م [6].
وبلغت أخبار الهزيمة الخليفة هشام بن عبد الملك، فغضب غضبته الشهيرة؛ وقال: «والله! لأغضبنَّ لهم غضبة عربية، ولأبعثنَّ لهم جيشًا أوله عندهم وآخره عندي»[7]. فعزل هشامُ بن عبد الملك عبيدَ الله بن الحبحاب، واستقدمه في جمادى الآخرة سنة 123هـ، وبعث كلثوم بن عياض القُشَيْرِيّ على رأس جيش بلغ ثلاثين ألفًا، وعَهِد له بولاية إفريقية وضَبْط أمورها، وجعل معه ابن أخيه بَلْج بن بشر القُشَيْرِيّ، وثعلبة بن سلامة العَامِلِيّ[8]، واستعدَّ الجيشان العربي بقيادة كلثوم بن عياض والأمازيغي البربري بقيادة خالد بن حميد الزَّنَاتِيّ، واقتتلوا قتالاً شديدًا، لكن دارت الدائرة على العرب، وقُتِلَ قائدهم كلثوم بن عياض، واستطاع بَلْج بن بشر أن ينجو بنفسه وبعضًا من جنده، وتحصَّنوا بمدينة سَبْتَة، وفرض الأمازيغ البربر الحصار على بَلْج ومَنْ معه لمدَّة سنة كاملة 123، 124هـ، وكانوا طوال هذا العام يستغيثون بعبد الملك بن قَطَن والي الأندلس، ولكن بلا مجيب[9]!
ثورات الخوارج في الأندلس
ويبدو أن عَدْوَى الخروج على الحكَّام انتقلت إلى الأندلس، فلم تلبث الثورة أن انتقلت إلى أمازيغ بربر الأندلس، الذين أعلنوا العصيان، وبدءوا بجِلِّيقِيَّة وأستورقة في الشمال الغربي للأندلس حيث الكثافة الأمازيغية البربرية، فقتلوا العرب وطردوهم من البلاد، إلاَّ ما كان من سَرَقُسْطَة فقد كانت الغلبة فيها للعرب[10].
وبعد أن ثَبَّت الأمازيغ البربر أقدامهم في تلك المناطق، زحفوا باتجاه المدن الكبرى للسيطرة عليها من خلال ثلاثة جيوش، وَفْقَ خُطَّة ذكية أدركت مواطن الضعف في الولاية الأندلسية، وعملت على استغلالها:
الأول: إلى طليطلة عاصمة الثغر الأدنى.
الثاني: إلى قرطبة عاصمة الأندل
الثالث: إلى الجزيرة الخضراء في أقصى الجنوب للبلاد.
وأمام هذا الزحف الأمازيغي البربري لم يجد عبد الملك بن قَطَن بُدًّا من الاستعانة ببَلْج وأصحابه المحاصرين في سَبْتَة، وقد كان لا يرضى أن يُغيثهم، ولا يرضى أن يُنزلهم الأندلس حتى أكلتهم المجاعة، فبعث إليهم بالسفن والمئونة، وسمح لهم بالعبور إلى الأندلس؛ لإخماد الثورة الأمازيغية البربرية، التي كادت أن تعصف به[11]، وكانت المواجهة الأولى بين بَلْج بن بشر والجيش الأمازيغي البربري الثالث المتجه ناحية الجزيرة الخضراء في جنوب الأندلس، وقد وقعت المعركة في ذي القعدة من عام 113هـ على مقربة من شَذُونَة، وأثبت فيها الجنود الشاميون بقيادة بَلْج بن بشر شجاعة وإقدامًا، رجَّحت كِفَّة النصر فيها للعرب، وفي التوقيت نفسه كانت قُرْطُبَة تصدُّ هجمات الجيش الأمازيغي البربري الثاني، وبمجرَّد أن انتصر بَلْج بن بشر على الجيش الثالث لحق بقُرْطُبَة فقاتل مع عبد الملك بن قَطَن الجيشَ البربري الثاني، فهزماه هزيمة ساحقة، حتى لم يبقَ من الأمازيغ البربر إلاَّ الشريد، الذي لحق بالجيش الأول المحاصر لطُلَيْطِلَة، وهناك عند وادي سليط جرت معركة طاحنة سُحق فيها الجيش الأمازيغي البربري الأول، وسُحقت ثورتهم، وتشتَّت جمعهم، وتفرَّقوا في البلاد، ولم تقم لهم بعدها قائمةلإقليم
حكمت الدولة الرستمية عدة أجزاء من المغرب الأوسط وإقليم طرابلس ومنطقة الجريد وامتد حكمها حتى قيام الدولة الفاطمية، حيث المناطق التي ينتشر فيها المذهب الإباضي، وامتدادها من تلمسان غربا وانتشار نفوذها إلى إقليم طرابلس وجبل نفوسة شرقا على امتداد 1300 كلم في السهوب وفي واحات جنوب الجزائر، وفي الشمال الغربي كانت حدود الدولة تمتد حتى البحر، ويصعب تحديد حدود واضحة للدولة الرستمية بشكل دقيق.
التاريخ
تعود بذور الفكر الخارجي في المغرب الإسلامي إلى حدود أواخر الخلافة الأموية وبداية العباسيين حيث كان دعاة وعلماء المذهب يتوجهون للمغرب الإسلامي وينشرون دعوتهم، ويحرضون على الخلافة العباسية، وخلالها انتشرت الثورات ضد الحكم العباسي واستقل بعض من ينتمي لمذهب الصفرية في سجلماسة، وانتشر مذهب آخر وهو الإباضية في جبل نفوسة وبعض مناطق المغرب وخلالها نشأت الدولة الرستمية
نشأت الدولة على يد الأمير عبد الرحمن بن رستم الذي فر من القيروان باتجاه تيهرت في المغرب الأوسط، بعدما طارده الأغالبة العباسيون، حيث توافد عليه مجموعة من العلماء من جميع الأقطار من طرابلس وجبل نفوسة ثم بويع له بالإمامة نظرا لعلمه ومكانته وكان ذلك عن طريق الشورى.
بعد وفاة عبد الرحمن بن رستم ترك الأمر في ستة أشخاص فوقع الاختيار على ابنه عبد الوهاب، هذا الأمر جعل مجموعة من المعارضين للحكم الوراثي الذي لا يرضاه المذهب الإباضي يخرجون على حكم عبد الوهاب وقاد الحركة يزيد بن فندين، وسمي أتباعه بالنكارية، لكن هذه الحركة باءت بالفشل واستتب الأمر لعبد الوهاب الذي بسط نفوذه وسيطرته وعقد تحالفا مع الأمويين في الأندلس ضد الأغالبة العباسيين في إفريقية، واستمر الحكم في سلالة عبد الوهاب فيما بعد، وازدهرت خلالها التجارة في مدينة تيهرت.
بعد قيام الدولة الفاطمية وقضائها على حكم الأغالبة استولت الجيوش الفاطمية على تيهرت ومناطق نفوذ الرستميين وخلع آخر حكام الرستميين وهو يقظان بن محمد سنة 909 م، ففر الإباضيون إلى ورقلة ثم وادي ميزاب حيث استقر بهم المطاف.
انتشار المذهب المالكي في المغرب
تذكر المصادر التاريخية أن عدد الأفارقة الذين رحلوا إلى الإمام مالك بن أنس – رضي الله عنه – في ذلك الوقت يربو على الثلاثين، وفي ذلك يقول الخشني: “كانت إفريقية قبل رحلة سحنون قد غمرها مذهب مالك بن أنس، لأنه رحل منها أكثر من ثلاثين رجلاً كلهم لقي مالكًا وسمع منه، و إن كان الفقه والفتيا في قليل منهم”
ويذكر القاضي عياض في مداركه أنه قبل المذهب المالكي، كان المذهب السائد في القيروان وما وراءها من المغرب، مذهب الكوفيين إلى أن دخل علي بن زياد وابن أشرس والبهلول بن راشد وبعدهم أسد بن الفرات وغيرهم بمذهب مالك فأخذ به كثير من الناس، ولم يزل يفشو إلى أن جاء سحنون فغلب في أيامه.
وقد ذهب الشيخ الشاذلي النيفر إلى القول بأن علي بن زياد هو في الحقيقة المؤسس الحقيقي للمدرسة التونسية – القيروانية – بأجلى مظاهرها التي لا تزال إلى اليوم ممتدة الفروع، ثابتة الأصول، إذ هو الذي بث في المغرب -يعني الغرب الإسلامي – بكامله المالكية، فعمت جميع أقطاره بدون استثناء، وهو وإن شاركته المدرسة المصرية، فهو الذي دل عليها، ولولاه ما قصد سحنون ابن القاسم
وبعد عودة الذين رحلوا لطلب العلم إلى بلادهم بدأت فكرة انتشار مذاهب فقهية معينة في بلاد المغرب خاصة مذهب أبي حنيفة النعمان ومذهب مالك بن أنس وبدرجة أقل مذهب الأوزاعي.
ثم كثر أتباع الإمام مالك وانتشروا في البلاد انتشارًا واسعًا حتى استحوذ هذا المذهب على الساحة الفقهية المغربية حتى صار لا يُفتى إلا به ولا يُولى إلا من انتسب إليه؛ وبذلك تشكل واقع متميز تمكن من القضاء على المذاهب المنافسة – أو تحجيمها على الأقل – حتى إن الرحالة المغاربة كانوا يتفاجأون من تعدد المذاهب التي يرونها في رحلاتهم إلى المشرق إضافة إلى بعض التصريحات الدالة على هذه السيادة مثلما قال ابن التبان: “لو نشرت بين اثنين ما خالفت مذهب مالك” أو مثلما تعبر عنه بعض الأمثال الشعبية الشائعة: “سيدي خليل والألفية، الحكمة ثمة مخفية” دون أن ننسى تأثر القوانين الحالية بالمذهب المالكي.
ومما ساعد على نمو هذه العلاقة بين المغاربة والمذهب المالكي تفسير العلماء لحديث النبي – صلى الله عليه وسلم – “يُوشِكُ أَن يَضرِبَ النَاسُ أَكبَادَ الإِبِلِ يَطلُبُونَ العِلمَ فَلاَ يَجِدُونَ أَحَدًا أَعلَمَ مِن عَالِمِ المَدِينَةِ” فقد قال العلماء إن مالكًا بن أنس هو المقصود بالحديث، وكان هذا التفسير بمثابة الحجة الشرعية الدالة على مبلغ علم الإمام مالك، وهذه الميزة لا تتوفر لأي مذهب من المذاهب الأخرى.
مميزات المدرسة المالكية
إن من مميزات هذه المدرسة إذا تتبعناها نراها كثيرة، وأهمها تلك التي ترتبط بالأصول فهي: مدرسة انبتت على فقه الموطأ، المؤسس على الدعائم الصحيحة من الحديث والآثار وغير ذلك مما وقف عليه مالك بن أنس وبنى عليه مذهبه المدعم بما عليه الجماعة بالمدينة المنورة، ولشدة حرص هذه المدرسة على اتباع هذه الأصول كان منهجهم تصحيح الروايات، وبيان وجوه الاحتمالات، مع ما انضاف إلى ذلك من تتبع الآثار، وترتيب أساليب الأخبار، وضبط الحروف على حسب ما وقع في السماع.
ولقد لقيت المدرسة القيروانية التونسية من جور العبيديين واضطهادهم الكثير، إلا أنها كافحت في سبيل البقاء، وصمدت لكل عوامل الظلم والاستبداد، حتى إذا ضعفت دولة العبيديين، ظهروا وفشوا عليهم، ونشروا المصنفات الجليلة، وقام منهم أئمة جلة، طار ذكرهم بأقطار الأرض، ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن خرجت القيروان وأهلها، وجهاتها، وسائر بلاد المغرب مجتمعة على هذا المذهب، لا يعرف لغيره قائم.
من أهم أوائل مؤلفات المدرسة المالكية القيروانية
يأتي في أوائل مصنفات المدرسة المالكية القيروانية مجموعة من الكتب أهمها :
1- الموطأ للإمام مالك بن أنس
ومعلوم أن الموطأ أصح كتب المذهب وأشهرها وأقدمها وأجمعها، وقد اتفق السواد الأعظم من الملة على العمل به والاجتهاد في روايته، ومن اليقين أنه ليس بيد أحد اليوم كتاب في الفقه أقوى من الموطأ، لأن فضل الكتاب، إما أن يكون باعتبار المؤلف، أو من جهة التزام الصحة، أو باعتبار الشهرة، أو من جهة القبول، أو باعتبار حسن الترتيب، واستيعاب المقاصد ونحو ذلك، وكل ذلك يوجد في الموطأ.
2- المدونة الفقهية الكبرى للإمام سحنون بن سعيد 240ه
تعتبر المدونة من أمهات كتب المذهب المالكي، كما لا يعرف عن كتاب في المذهب بعد الموطأ نال من الإطراء والتقدير ما نالته المدونة على ألسنة المتقدمين والمتأخرين، فهي أصل علم المالكيين، بل هي عندهم ككتاب سيبويه عند أهل النحو، وككتاب إقليدس عند أهل الحساب، ويروى أنه ما بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك، ولا بعد الموطأ ديوان في الفقه أفيد من المدونة.
ومما أهل المدونة لهذه الرتبة المسائل التي اشتملت عليها، حتى قال أحد الشيوخ على سبيل المبالغة “ما من حكم نزل من السماء إلا وهو في المدونة”.
وقد تداولتها أفكار أربعة من المجتهدين: مالك بن أنس وعبد الرحمن بن القاسم وأسد بن الفرات وسحنون بن سعيد، ومما ينقل عن سحنون قوله: “عليكم بالمدونة فإنها كلام رجل صالح وروايته”، كان يقول أيضًا: “إنما المدونة من العلم بمنزلة أم القرآن من القرآن، تجزئ في الصلاة عن غيرها، ولا يجزئ غيرها عنها”.
“أفرغ الرجال فيها عقولهم وشرحوها وبينوها، فما اعتكف أحد على المدونة ودراستها إلا عرف ذلك في ورعه وزهده، وما عداها أحد إلى غيرها إلا عرف ذلك فيه، ولو عاش عبد الرحمن أبدًا ما رأيتموني أبدًا”,
وهي في المرتبة الثانية بعد الموطا، وفي ذلك يقول شيخ المغرب أبو محمد صالح (ت631هـ): “إنما يفتى بقول مالك في الموطأ، فإن لم يجد في النازلة فبقوله في المدونة، فإن لم يجد فبقول ابن القاسم فيها، وإلا فبقوله في غيرها، وإلا فأقاويل أهل المذهب”.
3- كتاب المجموعة لمحمد بن إبراهيم بن عبدوس 260هـ
وابن عبدوس من تلاميذ الإمام سحنون، والمجموعة كتاب شريف على مذهب الإمام مالك وأصحابه كالمدونة في نحو الخمسين كتابًا، أعجلته المنية قبل تمامه، والمجموعة أشهر مؤلفات ابن عبدوس، وأكثرها تداولاً في المذهب .
وكتابه هذا، يعتبر خامس كتب الدواوين، وهي كما يقول القاضي عياض: “كتاب رجل أتى بعلم مالك على وجهه”.
4- النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات
وهو كتاب مشهور، أزيد من مائة جزء، ويعتبر بمثابة تلخيص للكتب الفقهية الهامة للمذهب المالكي حتى ذلك الوقت؛ حيث جمع جميع ما في الأمهات من المسائل والخلاف والأقوال، فاشتمل على جميع أقوال المذهب وفروع الأمهات كلها.
وعلى العموم، الكتاب عبارة عن موسوعة فقهية شاملة، تضم الفقه وفنونًا أخرى، وهو كما يقول المرحوم أبو الأجفان في مقدمة كتاب الجامع: “فبالإضافة إلى النقول الفقهية، والفقه المقارن داخل المذهب، فإن في هذا الكتاب شذرات من الأخبار والسير، وآراء مالك في العقيدة، ووصفًا لأحداث وأدوات، مما كان متعارفًا في عهد الإسلام الأول، مما يجعل منه مادة صالحة للباحث التاريخي الاجتماعي
الاحناف:
ظهرت في دولة الأغالبة كل التيارات الفكرية المعروفة في المشرق والمغرب على السواء في المجالين الديني والدنيوي. وبرز فيها أعلام لهم مكانتهم، وعلى رأسهم أسد بن الفرات (ت213هـ) الذي يمثل ازدواج التأثير في القيروان بين مدرستي المدينة المالكية والعراق الحنفية، ودوّن ما اكتسبه في كتابه الأسدية في الفقه، كذلك اشتهر عبد السلام بن سعيد التنوخي الملقب بسحنون صاحب المدونة، التي أصبحت كتاب الفقه المالكي الأساسي للمغرب والأندلس فيما بعد. وكان لهذين الفقيهين أثر في الجهاز الإداري، فقد أسندت إليهما أعمال متعددة كانت من صلاحيات الأمراء. كما برز في عهد أبي الغرانيق الفقيه المالكي محمد بن سحنون (ت256هـ/870م) الذي اشتهر بالفقه والجدل والحديث، وكان كثير الكتب غزير التأليف له نحو مئتي كتاب في فنون العلم، وكانت له مواقف مناهضة لمذهب الأحناف وهو مذهب دولة الأغالبة، كما خالف مقالة المعتزلة بخلق القرآن، وحدث في عهد أبي الغرانيق خلاف في الرأي بين السحنونية أنصار محمد بن سحنون، وبين العبدوسية أتباع محمد بن إبراهيم بن عبدوس، الذين أطلق عليهم لقب الشكوكية. وقد نال الفقهاء هذه المكانة على الرغم من الخلافات التي فرقت صفوفهم بين مالكية وأحناف يطعن كل منهما بعلم رجال الفريق الثاني، كذلك ضمت دولة الأغالبة معتزلة وخوارج من الصفرية والإباضية، وكانوا يعملون حلقاً في المسجد يتناظرون فيه، وتمكن الإمام سحنون من الوقوف في وجه الخوارج، إلا أنه كان عاجزاً عن مثل ذلك أمام المعتزلة لأنهم تمتعوا بحماية الأمراء، ولاسيما الأمير أحمد (242-249هـ) الذي عد الاعتزال مذهباً رسمياً للدولة مدة مؤقتة، وأخذ الناس بمحنة خلق القرآن، وانحصر نفوذ المعتزلة في الأوساط العُليا فقط، أما العامة فكانت معادية لها. كذلك عرفت دولة الأغالبة أطباء انتقلوا إليها من المشرق، لعل أشهرهم إسحاق بن عمران الذي جمع بين الطب والفلسفة بديار المغرب.
بنى الأغالبة مدينتين ملكيتين كانت أولاهما العباسية أو القصر القديم، وقد بناها إبراهيم بن الأغلب مؤسس الدولة، وبنى فيها قصره ومساكن حاشيته والمسجد الجامع، ودار سك النقود والدواوين، وأحاطها بالأسوار القوية، وجعل من خلفها خندقاً يحيط بها. وفي وسط المدينة ساحة واسعة عرفت بالميدان كانت تستخدم لعرض الفرسان، واتسعت العباسية، وأخذت تنافس القيروان بحماماتها الكثيرة وفنادقها وأسواقها.
أما المدينة الثانية فهي رقادة التي بناها إبراهيم بن أحمد، وقد ابتدأ بها سنة 263هـ/ 977م وبنى فيها القصور، منها قصر بغداد، وقدر لهذه المدينة أن تنمو وتتسع باطراد، فأضاف إليها الأمراء من بعده قصوراً أخرى أشهرها قصر العروس الذي بناه زيادة الله الثالث بن عبد الله على أربع طبقات، وأنفق فيه 232 ألف دينار. وبنى محمد بن أبي عقال الأغلب مدينة قرب تاهرت سماها العباسية. كما اهتم الأغالبة ببناء الصهاريج (خزانات المياه) التي عرفت باسم «ماجل» وكان يوجد خارج مدينة القيروان خمسة عشر ماجلاً للماء يستقي منها أهلها، لعل أعظمها شأناً ماجل أحمد بن الأغلب بباب تونس من أبواب القيروان. وهو مستدير متناهي الكبر، في وسطه صومعة مثمنة في أعلاها قصبة، يدخل إليها في مركب يسمى بالزلاج. ويتصل بهذا الماجل أقباء طويلة، وبجوفه ماجل لطيف متصل به يسمى الفسقية، يقع فيه ماء الوادي، فإذا ارتفع الماء في الفسقية قدر قامتين يدخل إلى الماجل الكبير من باب بين الماجلين يسمى السرح. كذلك بنى الأغالبة قنطرة باب أبي الربيع لجلب الماء من الجبل
أما المساجد فكثيرة. وكان زيادة الله الأول بن إبراهيم قد جدد مسجد القيروان، وأقام في قاعة الصلاة عدداً كبيراً من الأعمدة الرائعة التي أحيطت أطرافها بأشرطة من الخشب ذات التزيينات المحفورة. وقام بعض خلفاء زيادة الله بإضافة عناصر عمرانية وتزيينية جديدة إلى ذلك المسجد. كذلك أحدثت بعض الإصلاحات والإضافات في المسجدين الكبيرين جامع الزيتونة في تونس والجامع الكبير في سوسة، كما بنيت المساجد الفخمة في القيروان وغيرها، كذلك عني الأغالبة بتحصين المدن. ولا ريب أن غنى ولاية الأغالبة في الزراعة والتجارة ساعدهم على جمع المال اللازم للعمران، وساعد في تنشيط الزراعة نشر الأمن في الطرق وتحسين وسائل المعاملات التجارية ولاسيما النقد، فقد ضرب الأغالبة نقوداً ذهبية ظل عيارها صحيحاً وقدره 4.5غ ذهب حتى أواخر أيام الأسرة حين انحط العيار إلى 4.12غ ثم إلى 4غ فقط. ومن اهتمامات الأغالبة الأخرى بناء الأربطة من أجل الجهاد وعلى رأسها قصر المرابطين بسوسة. وقيل إن أحمد الأغلبي بنى بأرض إفريقية عشرة آلاف حصن بالحجارة والكلس وأبواب الحديد.
ا : دخول الفكر الاعتزالي إلى بلاد المغرب.
من المعلوم أن واصل بن عطاء (ت 131هـ) مؤسس المذهب الاعتزالي، أرسل أتباعهُ إلى شتى بقاع الأرض، لتبليغ دعوته[2] وكان ممن أرسله إلى المغرب، عبد الله بن الحارث المعتزلي، فتلقى الناس دعوتهُ بالقَبول، وفي ذلك يقول أبو القاسم البلخي (ت 327هـ) : "وفرَّق رسله في الآفاق يدعون إلى دين الله، فأنفذ إلى المغرب عبد الله بن الحارث، فأجابه الخلق[3]، ولما انتشر المذهب الاعتزالي بالمغرب الأقصى أُعجب بذلك معتزلة المشرق، فقال شاعرهم صفوان الأنصاري:
له خلف شعب الصين في كــل ثغرة إلى سوسها الأقصى وخلف البراب
رجـال دعــاة لا يَفُـــلّ عـــــزيمَهـــم تهكـــــم جبـار ولا كيــــــد ماكر[4]
ومن مظاهر إجابة دعوة رسول واصل بن عطاء إلى المغرب، أن عدداً من المدن والقبائل كانت تتبنى المذهب الاعتزالي، على رأسها قبيلة أوْربة: وهي في ذلك الوقت أعظم قبائل بلاد المغرب، وكانت هذه القبيلة على مذهب وفيها مدن كثيرة[5]، وكانت هذه القبيلة على مذهب المعتزلة، ومما يؤيد ذلك أن زعيمهم عبد الحميد الأوربي كان معتزلياً، وعندما فرَّ المولى إدريس الأول من المشرق، نزل عندهُ، وتذكر كتب التاريخ أنه وافقهُ وتابعه على مذهبه سنة 172هـ[6]
بلدة طنجة: وعن انتشار المعتزلة فيها يقول ابن الفقيه الهمدني:"قالوا: وبلاد طنجة مدينتها – أي عاصمتها -وليلة، والغالب عليها المعتزلة، وعميدهم اليوم إسحاق بن محمّد بن عبد الحميد، وهو صاحب إدريس بن إدريس، وإدريس موافق له[7]
بلدة البيضاء: وقد ذكر البلخي أن فيها مائة ألف يحملون السلاح، يقال لهم الواصلية[8]، ويؤكد ذلك القاضي عبد الجبار (ت 415 هـ) بقوله: "… وبالمغرب الآن منهم شرذمة قليلة، في بلد إدريس بن عبد اللّه الحسيني، الذي خرج بالمغرب في أيام أبي جعفر المنصور، ويقال لهم الواصلية"[9]
قبيلتي زناتة ومزابة: وهما قبيلتان عظيمتان بالمغرب، الغالب عليهم الاعتزال من أصحاب واصل بن عطاء كما أشار إلى ذلك ابن حوقل (ت367 هـ) في صورة الأرض[10]
مدينة أيزرج: وهي مدينة تلي تاهرت، وقد كانت تحت ملك إبراهيم بن محمّد البربرىّ المعتزلي[11]
وبهذا يتضحُ أن الفكر الاعتزالي قد دخل إلى المغرب الأقصى في وقت مبكر، وأن هذا الدخول يعودُ إلى بداية القرن الثاني الهجري، مع أولى البعثات التي أرسلها واصل بن عطاء، والملاحظُ أيضاً أن المعتزلة كانت لهم اليد العليا في تأسيس دولة الأدارسة، فإن محمد بن إسحاق، أمر قبيلتهُ بطاعة إدريس الأول وتعظيمه[12]، ولعل من أبرز المحفزات التي جعلت المعتزلة يقبلون دعوة إدريس الأول، أنهم كانوا يعدون عبد الله بن الحسن إدريس الأكبر من رجال الطبقة الثالثة من طبقاتهم[13]، وهذا بشكل عام أسهم في انتشار المعتزلة وتوسعهم في المغرب الأقصى، حتى سمي بلد "المعتزلة" كما أشار إلى ذلك ابن خرداذبة (ت280 هـ) بقوله: "ووراء تاهرت مسيرة اربعة وعشرين يوما بلد المعتزلة وعليهم رئيس عادل وعدلهم فائض وسيرتهم حميدة ودارهم طنجة ونواحيها[14]، وقد بلغ عدد الواصلية بالمغرب فيما بعدُ حسب ابن خلدون (ت808هـ)، ثلاثين ألفا ظواعن ساكنين بالخيام، سنة 176هـ[15]
ولم تقتصر حركة المعتزلة على المغرب الأقصى فقط، بل نجد تحركاتٍ مماثلة لها في المغرب الأوسط، والمغرب الأدنى أيضاً.
ففي المغرب الأوسط نجدُ في فترات من تاريخه، وقائع الخلاف والتقارب بين المعتزلة، وبين الإباضية الرستمية، ومن الموضوعات التي شارك فيها الإباضية رأي المعتزلة، موضوعات خلق القرآن، وتأويل آياته.[16]
والشيء نفسه في المغرب الأدنى في القيروان، فقد وفدت إليه مجموعة من المذاهب، يعنينا الآن منهما مذهبان: مذهب الإمام مالك، ومذهب المعتزلة، وقد جرى بين هذين الاثنين مناقشات حادة، ومناظرات جادة، لاسيما في قضية خلق القرآن، وتذكر المراجعُ أن الغلبةَ كانت يؤمئذٍ للمالكية، وأن المعتزلة لم يقووا على مجاراتهم[17]!!. والحقيقةُ أن هذه الغلبة كانت مقرونةً بالسلطة، وهذا الذي يظهرُ من خلالِ الوقوف على تراجم مناظري المعتزلة من المالكية بإفريقية، فقد كان جلهم من القضاة[18].
إلا أن هذا الانتشار والحضور المكثف للمعتزلة بالمغرب، في نظر أحد الباحثين لم يعمر طويلاً؛ لأننا لا نعثر في الفترات التالية إلا على أخبار تتعلق بأفراد رجعوا من المشرق، وقد استهوتهم آراء المعتزلة، فاعتنقوها، وحاولوا الدعوة إليها، وظلت تكتسي الصبغة الفردية دون أن تؤول إلى تيارٍ عامٍّ[19].
ويرى د. حسن محمود أن للمالكية دوراً هاماً في أفول نجمهم بالمغرب الأدنى، يقول: "فلما امتحن أهل المغرب بمحنة خلق القرآن، وتفشت آراء المعتزلة والقدرية، كان المالكيون أشد الناس لهم حرباً، وأكثرهم عنفاً في مقاومتهم…، حتى كتب الله لهم الظفر وأعز الله بهم الإسلام، ورفع كتابه وسنة نبيه، وهزمت المعتزلة، حتى لم يبق لها بالقيروان رأي ولا أتباعٌ، ولم يجد الأمراء مفرا من النزول على رأي المالكية[20]
المبحث الثاني: أثر المعتزلة في المغرب سياسيا واقتصاديا وثقافيا.
كان للمعتزلة مشاركات هامة في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية بالمغرب، خصوصاً وأنهم كانوا يشكلون شريحة عريضة من المجتمع المغربي آنذاك، وسنحاول في هذا المبحث رصد أهم الآثار التي تركها المعتزلة في بلاد المغرب عبر الحديث عن كل ناحية من النواحي الثلاث على حدة.
أ. من الناحية السياسية
1- مساعدتهم على قيام وتأسيس الدولة الإدريسية بالمغرب الأقصى، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك، إذ إن عبد الحميد الأوربي كان معتزلياً، واستقبل إدريس الأول الذي كان زيديا، ودعا الناس إلى مبايعته سنة 172هـ.[21] ويرجعُ د. محمود إسماعيل هذا التوافق والانسجام الذي حصل بين الطرفين إلى أن عبد الحميد الأوربي كان يعلم سلفاً بقدوم إدريس لتولي حكم هذه الدولة؛ ولذا كانت قبيلة أوربة تعدُّ الجند والسلاح، حيث أن البيضاء وحدها كانت تحتوي على مائة ألف معتزلي يحملون السلاح، أضف إلى ذلك، أن هنالك قواسم مشتركة بين كل من الزيدية والمعتزلة، فقد تعرضا معاً للاضطهاد من قبل بني العباس[22].
2- استطاع المعتزلة أن يكونوا جيشاً لايستهان به في المغرب، وقد سبق ذكر أن البيضاء وحدها كانت تحوي مائة ألف من الواصلية يحملون السلاح[23]، وهو الأمر الذي لانكاد نجده عند معتزلة المشرق، هذا إضافةً إلى عملية التجييش التي قام بها إدريس الأول – عندما تولى الحكم – والتي ضاعفت من جيش المعتزلة، فإن قبيلتي أوربة وزناتة كانتا من أبرز القبائل التي جيّشها إدريس واعتمد عليها في حروبه[24
3- تقلد المعتزلةُ في ظل الدولة الإدريسية مجموعة من المناصب السياسية والدينية، وشاركوا في إدارة شؤون دولة المغرب الأقصى، فقد اتخذ إدريس الأول وزرائه، وقادته العسكريين من قبيلة أوربة الاعتزالية[25]، والشيء نفسه نجده في المغرب الأدنى في عهد الأغالبة، فقد تولى بعض المعتزلة القضاء، لتبعية الأغالبة للدولة العباسية سياسيا ومذهبيا، فانقلبت الدائرة على خصومهم من المالكية
ويتضح أن الدور السياسي للمعتزلة بالمغرب عموما فيه نوع من الغموض والتعتيم، مع شح في المادة العلمية، – اللهم تلك الشذرات التي ذكرناها آنفاً – ولعل هذا هو السر الذي جعل أحد الباحثين يشير إلى أنه: "بالرغم من الدور السياسي الذي اضطلعت به المعتزلة بالمغرب، إلا أنه تم التعتيم على أخبارها، واقتصر جل اهتمام الدراسات على إبراز دورها الفلسفي، فضلاً عن إظهارها بصورة المتزندق الخارج عن الدين، مع إغفال إسهاماتها ودورها السياسي".
ب- من الناحية الاقتصادية:
لم يقتصر نشاط المعتزلة بالمغرب على الجانب السياسي فقط، بل إننا نجد أيضاً نشاطاً اقتصاديا مزدهراً عرفته المناطق والقبائل التي كان المعتزلة يقطنون فيها، وهو ما يمكن أن نستدل به على أن المعتزلة كانت لهم إسهامات في مختلِف المجالات في بلاد المغرب.
وبالعودة إلى الجانب الاقتصادي في المغرب، يصف صاحب صورة الأرض بلاد إفريقية إلى آخر أعمال طنجة، بأنها بلاد مسكونة ومدن متّصلة الرساتيق والمزارع والضياع والمياه..، وكانت طنجة بلاد الزرع والحنطة والشعير والحبوب والمياه، وأكثر أموال أهلها من ذلك…، وأما زناتة، فيشير ابن حوقل إلى أنها قريةٌ كبيرة كثيرة الزرع والمياه[26]، وكان لمزاتة المعتزلية غَلات من القطن والحنطة والشعير، وتكثر عندهم المواشي من الدوابّ والأنعام والبقر[27].
والملاحظ أن المناطق التي كان فيها المعتزلة، غنيةٌ بالمنتوجات الفلاحية والزراعية بشكلٍ عام.
وقد ازدهرت الصناعة أيضاً في بعض مدن المغرب، خاصة في عهد الأدارسة؛ إذ استغلوا ثروات المناجم، سواء مناجم الفضة أو مناجم النحاس، كما كانت بعض المنتوجات تصدّر إلى خارج المغرب، كالجلد الفاسي الذي كان يُصدر إلى بلاد السودان، وتصدير الأدوات الخشبية التي تنتجتها بلاد الريف إلى الأندلس.
إن هذا الازدهار الفلاحي والصناعي في المغرب بطبيعة الحال، أدى إلى ظهور حركة تجارية نشطة، ولاسيما في مناطق المعتزلة، فقد كانوا مسيطرين على أهم الخطوط التجارية، كتلمسان والقيروان وغيرهما.
وكانت تلمسان تعد قاعدة المغرب الأوسط، لها أسواق ومساجد ومسجد جامع، وأشجار وأنهار، وهي دار مملكة زناته – المعتزلية -، وموسطة قبائل البربر، ومقصِدٌ لتجّار الآفاق، وأما القيروان فكانت أعظم مدينة بالمغرب، وأكثرها تجارةً وأموالا وأحسنها منازل وأسواقا[28]، ولا يخفى أن القيروان غلبَ عليها الاعتزالُ في عهد الأغالبة.
وبالتالي: يمكن القول أن المعتزلة تمكنوا مِن القيام بدور ملحوظ في النشاط التجاري، مِن خلال المناطِق التي تركَّزوا فيها، فاتَّخذت المعتزلة مِن العمل بالتجارة وسيلةً لنشر مذهبِها، وتمكَّنت مِن استمالة عدد مِن القبائل إليها
ج- من الناحية الثقافية:
أما الأثر الثقافي الذي تركه المعتزلة في بلاد المغرب، فيتجلي في الحركة الفكرية التي قاموا بها، والتي اتسمت بطابع الجدال والنقاش من خلال عقد المناظرات مع بقية الفرق الأخرى.
ويحكي لنا صاحب طبقات مشايخ المغرب عن المناظرات التي حصلت بين فرقتي الواصلية، والرستمية الإباضية، وأبرزها: المناظرة التي جرت بين عبد الوهاب بن رستم وبين أحد الواصلية، وكانت الغلبةُ يؤمئذ للواصلي المعتزلي، الأمر الذي جعل عبد اهاب يطلب من أهل نفوسة أن يمِدوه بأربعة رجال، يكونُ أحدهم عالماً بالمناظرة وبالرد على المخالفين[29].
وكان الواصلية لا يأبون سوى المناصبة، ويطلبون المناظرة؛ ولذا جرتٌ مناظرةٌ أخرى – على مرآى ومسمع من الناس- بين الواصلي المعتزلي، وبين مبعوث نفوسة: مهدي الويغوي، وكانت من أقوى المناظرات التي عرفها الفريقين، يقول الدرجيني واصفاً إياها: "… ثم تناظرا، فجرت بينهما وجوهٌ من المناظرة، والناس يعلمون ما يقولون، فلم يظفر أحد بصاحبه، ثم دخلا في مناظرات لم يفقهها أحدٌ غير الإمام، ثم دخلاً في وجوهٍ لم يفقهها أحدٌ ولا الإمام[30].
فمثل هذه المناظرات ذات المستوى العالي، لابد وأن يكون لهُ أثر على بقية الأفراد، ولاسيما على النخبة المثقفة بالذاتِ؛ ولذا تأثرت الإباضية ببعض آراء المعتزلة كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
ولما تبنى بعض الحكام الأغالبة المذهب الاعتزالي، تفشت قضية “خلق القرآن” في إفريقية وتناظرت المذاهب فيها، وكان النقاشُ محتدماً بين المالكية والمعتزلة، إلا أن هذا النقاش اقترنَ بشيءٍ من الاضطهاد وممارسة السلطة، من كلا الطرفين، إذ كان للحاكم زيادة الله الأغلبي قاضيان، أحدهما مالكي، والآخر معتزلي، وكلُّ قاضٍ منهما مارس السلطةَ في فرضِ عقيدته ومذهبه[31].
وعموماً، فقد أثر معتزلة المغرب على بقية الفرق الأخرى فكريا وثقافيا، وهذا التأثيرُ إما تأثيرٌ مباشرٌ عن طريق الاشتراك في بعض معتقدات المعتزلة، كما هو الحال بالنسبة للإباضية، وإما تأثيرٌ غير مباشرٍ عن طريقِ إكساب الفرق الأخرى طابع الجدل والمناظرة، كما حصل الأمر مع المالكية.
ابن تومرت الأسس الدينية
كان محور أفكاره الدينية يرتكز على الدعوة إلى التوحيد، أي إثبات أن الله واحد، وبأن صفات الله من الأسماء الحسنى ليست إلا تأكيدا لوحدانيته المطلقة، ومن هنا اشتقت الدعوة الموحدية تسميتها. فقد ورد في كتاب «أخبار المهدي بن تومرت وابتداء دولة الموحدين»لأبي بكر الصنهاجي المكنى بالبيذق ما يلي:
ابن تومرت واشتغلوا... بالتوحيد فإنه أساس دينكم، حتى تنفوا عن الخالق التشبيه والتشريك والنقائص والآفاق والحدود والجهات، ولا تجعلوه في مكان ولا في جهة، فإنه الله موجود قبل الأمكنة والجهات، فمن جعله في جهة ومكان فقد جسمه ومن جسمه فقد جعله مخلوقا ومن جعله مخلوقا فهو كعابد وثن، فمن مات على هذا فهو مخلد في النار، ومن تعلم توحيده خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فإن مات على ذلك فهو من أهل الجنة. ابن تومرت
وقد ورد عن ابن تومرت في كتابه «أعز ما يطلب» مايلي:
ابن تومرت ... لا يصح قيام الحق في الدنيا إلا بوجوب اعتقاد الإمامة في كل زمان من الأزمان إلى أن تقوم الساعة... ولا يكون الإمام إلا معصوما ليهدم الباطل لأن الباطل لا يهدم الباطل... وأن الإيمان بالمهدي واجب، وأن من شك فيه كافر، وإنه معصوم فيما دعا إليه من الحق، وإنه لا يكابر ولا يضاد ولا يدافع ولا يعاند ولا يخالف ولا ينازع، وأنه فرد في زمانه، صادق في قوله، وإنه يقطع الجبابرة والدجاجلة، وإنه يفتح الدنيا شرقها وغربها، وإنه يملأها بالعدل كما ملئت بالجور، وإن أمره قائم إلى أن تقوم الساعة. ابن تومرت
بدأ ابن تومرت يدعو إلى المهدي ويشوق الناس إليه فلما أدرك أصحابه فضيلة المهدي ادعى ذلك لنفسه وقال: «أنا المهدي المعصوم، أنا أحسن الناس معرفة بالله ورسوله»، وغير نسبه الأمازيغي إلى نسب الحسين بن علي حفيد النبي محمد ﷺ، وبالتالي فإنه يلزم الاقتداء به في جميع أفعاله وقبول أحكامه الدينية والدنيوية، وتفويض الأمر إليه في كل شيء.
قام ابن تومرت بنشر هذه المبادئ والأفكار على شكل خطب ومؤلفات مشروحة شرحا مستفيضا، وفرض عل اتباعه قراءة جزء منها كل يوم بعد صلاة الفجر وأدخل إلقاء خطبة الجمعة باللغة الأمازيغية حتى يسهل استيعابها من طرف مختلف الشرائح الاجتماعيةلعقيدة المرشدة هي رسالة وجيزة لا تتجاوز الصفحتين في علم التوحيد وأصول الدين، من تأليف الإمام المهدي محمد بن تومرت الظاهري الأشعري (ت 524هـ = 1130م) تلميذ الغزالي، ومؤسس دولة الموحدين بالمغرب.
وهذه الرسالة فيها ذكر عقيدة أهل السنة والجماعة مختصرة جامعة، موضحة لعقيدة الأشاعرة والماتريدية. وقد اهتم بتدريسها الإمام فخر الدين بن عساكر المتوفى سنة 620هـ، وأثنى عليها الحافظ صلاح الدين العلائي المتوفى سنة 761هـ وسماها (العقيدة المرشدة) وقال: «وهذه العقيدة المرشدة جرى قائلها على المنهاج القويم، والعقد المستقيم، وأصاب فيما نَزَّه به العلي العظيم»، نقل ذلك الإمام تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى ووافقه في تسميتها بالعقيدة المرشدة وساقها بكاملها، وقال في آخرها ما نصه: «هذا آخر العقيدة، وليس فيها ما ينكره سني». وعلى هذه العقيدة سار الشيخ عبد الله الهرري المعروف بالحبشي في جميع مؤلفاته في العقيدة.
وسمّيت بالمرشدة لأن افتتاحها كان بعبارة «اعلم أرشدنا الله وإياك...» فصار هذا الافتتاح علماً عليها، وقد أطلق عليها هذا الاسم في عهد متأخر ـ من عهد المهدي وعبد المؤمن بن علي ـ عندما كثر تداولها بين الناس لتميز عن غيرها، وكان الهدف منها تلقينها للعامة وفهمها من طرفهم ليكون إيمانهم مبيناً على أسس صحيحة، وقد أصدر عبد المؤمن مرسوماً يأمر فيه العامة بحفظ هذه العقيدة وفهمها. وعندما أصدر عبد المؤمن هذا المرسوم عرفها بقوله: «العقيدة التي أولها: اعلم أرشدنا الله وإياك».
وعلى الرغم من صغر حجم هذه العقيدة، فإنها حظيت باهتمام كبير من طرف العلماء وطلبة العلم والشراح، حتى قيل عنها: إنها مرشدة رشيدة لم يترك المهدي أحسن منها وسلية. وقد لقيت صدى واسعاً في الأوساط العلمية في فترات زمنية مختلفة وفي أماكن من الغرب الإسلامي متباينة من الأندلس والمغرب والجزائر وتونس وليبيا والسودان، وتهافت العلماء على شرحها، ومن بين هذه الشروح:
شرح أبي عبد الله محمد بن خليل السكوني الإشبيلي نزيل تونس. نشر بتحقيق يوسف احنانة، دار الغرب الإسلامي، سنة 1993م.
شرح أبي عبد الله محمد بن يوسف السنوسي. ويمتاز شرح السنوسي بتدقيقاته الكلامية، لكنه لم يكمل شرحها بسبب سفر شغله عن ذلك فأكمل شرحها بعض أصحابه.
شرح أبي عبد الله محمد بن يوسف الخراط، وضاع هذا الشرح عام 756هـ حين دخل النصارى إلى طرابلس الغرب، ومزقوا هذا الشرح.
شرح أبي عبد الله محمد بن يحيى الطرابلسي.
شرح أبي زكريا يحيى التنسي الهنيني.
شرح أبي عثمان سعيد بن عبد المنعم الحاحي.
شرح بيورك بن عبد الله السملالي.
شرح محمد بن إبراهيم بن عباد التلمساني (ت 792هـ) وعنوانه (الدرة المشيدة في شرح عقيدة المرشدة).
شرح أبي عبد الله محمد بن أبي العباس ابن إسماعيل الأموي المعروف بابن النقاش، وعنوانه (الدرة المفردة في شرح عقيدة المرشدة).
شرح عبد الغني بن إسماعيل النابلسي (ت 1143هـ) وعنوانه (نور الأفئدة في شرح المرشدة).
شرح للشيخ سمير القاضي، سمّاه (مرشد الحائر في حل ألفاظ رسالة فخر الدين بن عساكر).
شرح للشيخ الأديب عصام جاسم محمد عبد الله القطان، وعنوانه (الرسالة المؤيدة في شرح العقيدة المرشدة).
وقد كان المهدي بن تومرت يقوم بنفسه بتدريس وشرح ما كتبه من مؤلفات، ويلقن للناس ما ضمنه كتبه من الأفكار الكلامية، ويذكر ابن القطان الفاسي (ت 628هـ) بشيء من التفصيل المسائل التي كان يدرسها لطلبته، والأساليب التي كان يتبعها لإنفاذ أفكاره. ولما تولى الأمير عبد المؤمن بن علي الموحدي اعتنى بمؤلفات ابن تومرت وجمعها في سفر سماه (أعز ما يطلب)، وألزم الناس بقراءة أفكار ابن تومرت في العقائد بلسانهم وباللسان العربي، وأصدر مرسوماً في ذلك جاء فيه: «يلزم العامة ومن في الديار بقراءة العقيدة التي أولها: «اعلم أرشدنا الله وإياك» وحفظها وتفهمها».
ومن أكبر الدعاة لعقيدة ابن تومرت البيذق وله مصنف فيه ومصنف ثان في دولة الموحدين حتى نهاية عصر عبد المؤمن بناهما على الدعوة للموحدين
انتشارها وشيوعها
إن وجازة المرشدة وبلاغتها، وسلامتها من كل مخالفة ظاهرة للآراء الأشعرية ضمن لها الذيوع والانتشار، وجلب لها العناية المتزايدة بالدرس والشرح سواء في عهد الموحدين أو بعدهم. وكان المهدي نفسه يُولّيها عناية فائقة بالتبليغ والتدريس، ومن المرجح أن تكون من مؤلفاته الأولى حين نزوله ببلده إثر رحلته إلى المشرق، فجاءت لذلك خالية من القول في الإمامة التي يبدو أن آراءه فيها لم تتضح لديه بعد، ولم يصدع بها إلا حينما انتقل إلى تينمل، وهو ما يفهم من قول ابن خلدون متحدثاً عن نزول المهدي على قومه وتعليمهم العقيدة: «فنزل على قومه، وذلك سنة خمس عشرة وخمسمائة، وبنى رابطة للعبادة، فاجتمعت إليه الطلبة والقبائل يعلمهم المرشدة في التوحيد باللسان البربري»، وهو ما يفيد أن المرشدة كانت أول ما بادر به المهدي في خطة الإصلاح العقائدي التي كانت إحدى أسسه في الإصلاح
يقول عبد الله كنون بعد عرض مؤلفات المهدي بن تومرت وتخصيص الحديث عن المرشدة قائلاً: «عقيدة المرشدة التي لقيت رواجاً كبيراً في حياته وبعد مماته، وتلقاها أئمة العلم بالقبول، وحكموا عليه من خلالها بسلامة العقيدة وصحة المذهب. ولا نشك أنها كانت من أول ما أملى من تآليفه ولقن أصحابه من العقيدة على مذهب الإمام الأشعري، لأنها بمثابة المقدمة في هذا الصدد من حيث الاختصار وعدم الاحتواء على الأدلة العقلية التي لا يدركها العموم كما في عقيدة التوحيد، ولأنها جاءت خالية من كل شبهة على ما كانت عليه دعوته...».
ولا شك أن أمر الأمير عبد المؤمن بن علي عامة الناس بحفظ المرشدة وفهمها كان له دور فعّال في انتشارها وذيوعها، فكثر حفظها، واقراؤها في المساجد، وكثرت الشروح عليها، وتتالى ذلك عبر القرون، ويبدو أن العناية بها من قبل العلماء خاصة تزايدت بعد سقوط الموحدين، حينما توطد الاندماج بين الآراء الأشعرية للمهدي وبين التيار الأشعري العام. ومن خلال ما عثر عليه من شروح للمرشدة يتبين أنها كانت تمثل محوراً دراسياً في مختلف الأزمان، وفي مختلف المراكز العلمية بالمغرب، بل وفي بعض مراكز المشرق أيضاً.
أولاً: في المغرب الأقصى
كانت المرشدة متداولة بمدينة فاس، يتناقلها العلماء بالرواية، ويتناولونها بالشرح كما ذكر أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عباد التلمساني (ت 792هـ = 1389م) في قوله: «...وقد رويت هذه العقيدة عن الشيخ العالم المفتي سيدي أبي الحسن علي بن عبد الله البسيلي بمدينة فاس، ورويتها أيضاً عن الشيخ الزاهد الورع الأعرف سيدي أبي عبد الله محمد بن إبراهيم الصنهاجي رحمة الله عليه». وقد كتب عليها ابن عباد شرحاً سمّاه (الدرة المشيدة في شرح المرشدة) ويقول في مفتتحه: «...وبعد فالمراد من هذا الكلام شرح العقيدة المسماة بالمرشدة، وهي وإن كانت سهلة العبارة واضحة الإشارة، تحتاج إلى إيضاح وبيان وزيادة فوائد حسان»، ويكتسي هذا الشرح صبغة صوفية خالصة.
وقد شرحها أيضاً في القرن الحادي عشر بيورك بن عبد الله بن يعقوب السملالي، دون أن يضع لشرحه اسماً، وأكثره منقول عن الشارحين: الشيباني وابن النقاش كما ذكر هو نفسه ذلك في افتتاح شرحه حيث يقول: «وبعد فإني أقصد أن أشارك الإمام المهدي في عقيدته المعروفة بالمرشدة بشرح مختصر يبرز معانيها لمن قصد فهمها مثلي، ناقلاً عن شارحيها أبي عبد الله محمد بن يحيى الشيباني الطرابلسي، وأبي عبد الله الأموي المعروف بابن النقاش»، ولم يكن لهذا الشارح إلا إضافات قليلة عن هذا المنقول، ويبدو أنه ليس من أهل الكلام. وجاء في خاتمة الشرح: «هذا ما رمته من بيان معاني العقيدة المرشدة، وإبراز معانيها بعبارة مختصرة مفيدة.... وكان الفراغ منه يوم الجمعة آخر صفر عام واحد وخمسين وألف».
ثانياً: في المغرب الأوسط
كانت المرشدة مقروءة بتلمسان متداولة بها. وقد وَضع عليها شرحاً العالم محمد بن يوسف السنوسي (ت 859هـ = 1489م) بطلب من بعض أهل تلمسان كما يفيده قوله: «...وبعد، كسانا الله وإياك لباس التقوى، وزحزحنا بمنه عن نار الشهوات والهوى، فإنك سألتني أن أقيد لك على كلام أبي عبد الله محمد المهدوي رحمه الله ونفع به في المرشدة ما يحلو سماعه ويروق دليله ونصوعه، فأجبت إلى ذلك مستعيناً بالله...». وقد أكمل هذا الشرح بعض أصحاب السنوسي، وهو ما يفيده قوله: «ولقد أحسن بعض أصحابنا بتكملة هذا المختصر، وذلك أني وقفت على قوله: والأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون... لسفر شغلني عن تكملته في الحال».
ولعل هذا الذي أكمله هو المسمى أبو زكريا يحيى بن الشيخ أبي حفص عمر ابن أبي بكر المشهور بالتنسي ثم الهنيني، وذلك لأنه ورد في آخر بعض النسخ من شرح السنوسي التعليق التالي: «كل ما وضع شرحاً لعقيدة المرشدة تأليف العبد الفقير إلى الله الغني به عما سواه، المتشبث بفضله وعفوه ورحمته، سائلاً منه رضاه، الغريب (لعلها المغربي) العربي يحيى بن الفقيه المرجو له فضل الله أبي حفص عمر بن أبي بكر المغراوي المشهور بالسبتي ثم الهنتاتي لطف الله به ورحمه».
ومما يؤكد ذلك أن نفس هذا الشرح وردت نسبته إلى نفس هذا الاسم على أنه مؤلفه مع اختلاف جزئي في اللقب يرجع إلى تصحيف الناسخين، وقد عثر على مخطوطة بخزانة الجامع الكبير بمكناس جاء بطالعها: «الحمد لله وحده كما يجب لجلاله، والصلاة والتسليم على محمد نبيه وآله وأصحابه وأزواجه وذرياته وسلم تسليماً، هذا كتاب الأنوار المبينة لمعاني عقد عقيدة المرشدة (كلمة غير مقروءة) على حسبها إن شاء الله وتعالى، وهو المستعان لا رب غيره، تأليف العبد الفقير إلى الله تعالى الغني به عمن سواه المتشبث بفضله عفا الله عنه بمنه وكرمه أبي زكريا يحيى ابن الشيخ المقر بذنبه أبي حفص عمر بن أبي بكر المشهور بالتنسي الهنيني غفر الله له ولجميع المسلمين».
فهذان الشرحان هما في الحقيقة شرح واحد كما يتبين بعد المقارنة بينهما، ولكنه نسب إلى السنوسي تارة كما في نسخ تونس والرباط، ونسب إلى التنسي كما في نسخة مكناس، ولما كان الشرح ثابت النسبة إلى السنوسي، أصبح الحل أن أصل الشرح من وضع السنوسي، ووضع التنسي إكمالاً له، فنسب إلى الأول باعتبار الأصل، وإلى الثاني باعتبار الإكمال. ويمتاز هذا الشرح بتدقيقاته الكلامية الطريفة، ولا غرو فإن مؤلفه من أساطين العقيدة بالمغرب.
وقد شرح المرشدة أيضاً من أهل تلمسان أبو عبد الله محمد بن أبي العباس أحمد بن إسماعيل بن علي الأموي المعروف بابن النقاش، وسمى شرحه (الدرة المفردة في شرح العقيدة المرشدة)، وعرفه بقوله: «أشرح فيه ألفاظ العقيدة المذكورة على السبيل الظاهرة المأثورة من غير عدول على حد الاختصار، ولا ميل إلى تطويل ولا إكثار».
ومما جاء في هذا الشرح دالاً على تدوال المرشدة بين الناس وشيوعها فيهم قوله: «ولما كان من جملة ما وضع المهدي تقريباً لأفهام العامة، وتيسيراً على الكافة العقيدة المختصرة المنتظمة الكلام، الحسنة النظام، المرتبطة المعاني، المرسومة بالمرشدة، بادر إلى حفظها وقراءتها جماعة الفقراء والعلماء الأخيار، الذين اجتمعوا بتلمسان المحروسة على شيخهم وقدوتهم الشاب الأتقى الأعرف الصوفي السالك الناسك أبي عبد الله محمد بن الشيخ المبارك أبي زيد عبد الرحمان اليزنامي معلم كتاب الله... وكان رضي الله عنه ممن نسب طريقه إلينا، وتمسك بطرف بسلسلة إسنادنا، وممن أخذت بيده، وانخرط في سلك الآخذين عنا، وفي جملة المنتمين إلى طريقتنا».
وصاحب هذا الشرح من الذين يولون احتراماً كبيراً للمهدي، حتى لكأنه من المؤمنين به مهدياً كما يفيده قوله: «إن الإمام المهدي رضي الله عنه كان من حزمه وحرصه على هداية الخلق واستمرار كلمة الحق، أن سهل على الناس طرق الاستدلال، ووضع تصانيف للعقائد رفعاً للالتباس عليهم، وبياناً للإشكال، وكان يأتي كل قوم بلغتهم، وكل طائفة من بابها، حتى لقد رأيت له عقيدة باللسان البربري وبالمصمودي، ولم يزل رضي الله عنه على ذلك إلى أن اشتهرت الطريقة الدينية واتضحت الملة الحنيفية، فجزاه الله عن المسلمين خيراً، وجعل سعيه في ذلك للآخرة ذخراً، ورفع له به في الصالحين ذكراً بمنه وكرمه».
وعلى الرغم من أن هذا الشارح ينتمي إلى التصوف، فإنه أجرى شرحه على الطريقة الظاهرة كما لاحظ هو ذلك، فجاء شرحه كلامياً تظهر فيه الدقة وسعة الاطلاع على المذاهب والأقوال الكلامية.
ثالثاً: في إفريقية
كانت المرشدة معروفة بتونس، متناولة فيها بالحفظ والدراسة وقد قام بشرحها أبو عبد الله محمد بن خليل السكوني، وجاء في طالع هذا الشرح قوله: «هذا شرح عقيدة الشيخ المرحوم أبي عبد الله محمد بن عبد الله السوسي المكنى بالمهدي، المشهورة بالمرشدة للشيخ الفقيه أبي عبد الله محمد بن خليل نفعنا الله به». وميزة هذا الشرح أنه دقيق في إيراد المسائل الكلامية وتحليلها رغم اختصاره وصغر حجمه.
ومما يدل على عناية أهل تونس بالمرشدة أن أبو القاسم البرزلي (ت 844هـ = 1440م) ذكرها في نوازله، وأورد نصها كاملاً، وقال فيها: «تواتر الخبر عن الإمام المهدي الشريف رئيس الموحدين وأولهم في ذلك عقيدته المشهورة بالمرشدة... وقد كثر حفظ هذه العقيدة لقلتها وبلاغتها». كما كانت المرشدة معروفة ومتناولة أيضاً بطرابلس وهو ما وصفه أبو عبد الله محمد بن يحيى الشيباني الطرابلسي في شرحه على المرشدة: «العقيدة المعروفة بالمرشدة المنسوبة إلى الإمام المهدي رحمه الله، كثيراً ما يستعملها أهل الفضل من الصوفية ويقرؤونها من جهة التبرك في أذكارهم».
ومن مظاهر العناية بها وضع الشروح عليها، فقد شرحها المتصوف أبو عبد الله محمد بن يوسف الخراط كما ذكره الشيباني قائلاً: «وقد كان الشيخ المتصوف الفقيه الزاهد أبو عبد الله محمد بن يوسف الصنهاجي عرف بالخراط وضع عليها شرحاً، وكنت أنا متولي كتبه بعد إملائه علي في عام أربعين وسبعمائة».
ولكن هذا الشرح قد ضاع في خضم الأحداث التي انتابت طرابلس منتصف القرن الثامن، وانتهت بسيطرة النصارى عليها، فكان ذلك داعياً للشيباني أن يضع شرحاً عليها، وهو ما ذكره في قوله: «...فقطّعه (شرح الخراط) النصارى حين أخذهم مدينة طرابلس عام ستة وخمسين وسبعمائة... ولا وقفت لها (المرشدة) بمدينة طرابلس ولا بجهاتها على شرح فيما علمت مختصر نحو ثماني ورقات في ربع البطق (؟)، فحركني داعي القدر إلى أن أضع عليها من الشرح ما حواه فهمي مع قصوره، وأنقل عليها ما فتح به من كلام المتكلمين». وقد جاء هذا الشرح من أهم شروح المرشدة في دقته، وما بنى عليه من المقابلة بين الآراء، وما جرى عليه من الصبغة الجدلية، ويبدو أن صاحبه واسع الاطلاع على علم الكلام ومذاهبهالفكر الأشعري بالغرب الإسلامي
لم يكن الغرب الإسلامي بمعزل عن التحولات الفكرية التي تعرفها بلدان المشرق. كما أن علماء المشرق أنفسهم كانوا حريصين على أن تصل آراؤهم ومذاهبهم إلى مختلف ربوع العالم الإسلامي. وكانت بوابة الغرب الإسلامي ومعبر الآراء والمذاهب إليه تونس أو إفريقية بتعبير القدماء- وخاصة حاضرة القيروان.
ومن أوائل الذين نشروا الأشعرية بالقيروان أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الزبيدي المعروف بالقلانسي (ت 359هـ)(8). وقد كان ابن أبي زيد القيرواني على صلة علمية بأبي عبد الله بن مجاهد البصري (ت 370هـ) أحد تلامذة الإمام أبي الحسن الأشعري، حتى إن بعض المصادر جزمت بتحول ابن أبي زيد إلى المذهب الأشعري بعد كتابته لرسالته الشهيرة التي جاءت مقدمتها العقدية على مذهب السلف في تفويض معاني الصفات الإلهية وتجنب التشبيه والتأويل معا. وكان لتلاميذ الإمام أبي بكر الباقلاني (ت 403هـ) -وهو من أعلام المالكية والأشعرية في الآن نفسه- دور بالغ الأهمية في نشر الأشعرية بتونس. ومنهم أبو الحسن القابسي (ت 403هـ)؛ وأبو عمران الفاسي (ت 430هـ) الذي استقر بالقيروان بعد عودته من المشرق.
وفي الفترة نفسها تقريبا كان العلماء الذين عادوا من الرحلة إلى المشرق ينشرون الأشعرية في أقصى الغرب الإسلامي؛ أي في الأندلس. ومنهم الإمام أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الأصيلي (ت 392هـ)، والمحدث أبو عمر الطلمنكي (ت 429هـ)، وأبو عمرو الداني المقرئ (ت 444هـ)، والقاضي أبو الوليد الباجي (ت 474هـ).
أما في المغرب الأقصى فقد احتاج انتشار الأشعرية إلى مدة أطول نسبيا لأسباب كثيرة؛ منها أن المغرب لم يعرف المذاهب العقدية غير السنية كالاعتزال والتشيع إلا في حدود ضيقة وفي مناطق محصورة؛ ولذلك لم تمس الحاجة عند العلماء إلى تبني الأشعرية في بيئة يقل فيها الخلاف العقدي، وكان يكفيهم موقف كبار العلماء من سلف الأمة .
- انتشار الأشعرية بالمغرب إلى القرن السادس الهجري
ومن أبرز العلماء الذين نشروا الأشعرية في المغرب أبو بكر محمد بن الحسن المرادي الحضرمي القيرواني (ت 489هـ) صاحب “التجريد في علم الكلام”، وتلميذه أبو الحجاج يوسف بن موسى الضرير (ت 520هـ) شيخ القاضي عياض وصاحب أرجوزة وافية في العقيدة. ومنهم أبو عبد الله محمد بن خلف الإلبيري (ت 537هـ) صاحب “الأصول إلى معرفة الله والرسول” و”الرد على أبي الوليد بن رشد في مسألة الاستواء”.
وظلت الأشعرية في عهد المرابطين حبيسة الأوساط العلمية؛ لأنهم كانوا شديدي التحفظ مما يمكن أن يزعزع الوحدة الدينية والمذهبية للمجتمع. وكانت نزعة المحافظة عند طائفة من العلماء المقربين من أمراء المرابطين وحرص طائفة أخرى على إرضائهم من أسباب هذا الوضع.
ومع الموحدين “الذين وظفوا قضايا العقيدة في نزع المشروعية من المرابطين واتهموهم بالتشبيه والتجسيم- ستعرف الأشعرية بالمغرب مرحلة مد عام وكاسح لتكامل الأدوار ما بين سلطة العلماء والسلطة السياسية. وبالإضافة إلى ما لقيته “مرشدة” ابن تومرت وكتاباته في الإعتقاد من احتفاء اتجه العلماء إلى دراسة وتدريس المصادر الحقيقية للمذهب الأشعري ككتاب “الإرشاد” لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني. ومن أبرز علماء هذه الفترة أبو عمرو عثمان بن عبد الله السلالجي (ت 574هـ) الذي نبغ في علم العقيدة وكثر تلامذته الذين أخذوا عنه العقيدة الأشعرية (أصول العقيدة الأشعرية) حتى لقب بـــ”منقذ أهل فاس من التجسيم. وقد عرفت رسالته المختصرة “العقيدة البرهانية” انتشارا واسعا في المغرب، وأقبل عليها العلماء يشرحونها ويدرّّّسونها. وإذا كانت الأشعرية قد التحمت بالتدريج بالفقه المالكي منذ العصر الموحدي؛ فإن معظم أهل التصوف أيضا كانوا يميلون إلى المذهب الأشعري. وهذا الإلتحام بين المكونات الثلاثة للتدين في المغرب هو الذي سيلخصه لاحقا الفقيه عبد الواحد بن عاشر وهو يوضح عمدة منظومته التعليمية “المرشد المعين على الضروري من علوم الدين”- قائلا:
في عقد الأشعري وفقه مالك** وفي طريقة الجنيد السالك
وبقيت “البرهانية” و”مرشدة” ابن تومرت مهيمنتان على مجالس العلم بالمغرب إلى أن ألف العلامة محمد بن يوسف السنوسي (ت 895هـ) ضمن ما ألف في العقيدة رسالته “أم البراهين” أو “العقيدة الصغرى”. فكتب لها الانتشار لصغر حجمها، وبعدها عن التعقيد. ظلت “أم البراهين” وشروح العلماء عليها مرجعا في علم العقيدة بالمغرب في حلقات الدرس إلى عهد قريب. ولم يكن يزاحمها على هذه المكانة إلا بعض المنظومات العقدية باللغة الأمازيغية التي كان بعض الفقهاء يؤلفونها لتكون مرجعا لطلبة منطقة سوس في بعض الزوايا.
وقد أسهمت الأشعرية رفقة المذهب المالكي والتصوف السني في خلق انسجام مذهبي وعقدي في المغرب جنبه كثيرا من القلاقل والفتن التي كانت تقع في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي بسبب الخلافات العقدية. وبرغم بروز اتجاهات عقدية غير أشعرية عند بعض علماء المغرب بعد القرن السادس الهجري؛ فإن التعبير عن الخلاف كان محصورا في السجال العلمي. ولم تتحول الأشعرية إلى موضوع نقاش وأخذ ورد في المجتمع المغربي بل في الغرب الإسلامي عموما إلا بعد أن تعرضت لهجوم ممنهج في العقود الأخيرة…
.
- Enseignant: Ali Beldi