Annonces
شعرية عربية
قسم اللغة والأدب العربي ــــــــ 2019/2020
المقياس : شعرية عربية
المستوى : السنة الثانية دراسات أدبية
عنوان المحاضرة :أبو تمام وتجاوزه عيارات عمود الشعر :
العيارات هي مقاييس تقرأ بها بنية القصيدة ، وهي بنود عمود الشعر عند العرب كما ذكرها المرزوقي في شرحه ديوان الحماسة لأبي تمام ، نذكر منها: ( شرف المعنى وصحته ، جزالة اللفظ واستقامته ، الإصابة في الوصف ...) .
تجاوز عيار المعنى :
إذا كان العمود الشعري يميل إلى الوضوح في المعاني وقرب الدلالة ، فإن أبا تمام فضل التعقيد في المعاني ، وهو تعقيد يأتي عفو الخاطر وعلى السجية ، لا يرى فيه أثر لعنت النفس ، إنه نمط من التعقيد يأتي للشاعر ، نظرا لما يعتمل في نفسه من نوازع الفكر أثناء التعبير عنه ، فيأتي على لسان الشاعر ممتزجا بحاله ولغته في لحظة الإبداع ، فيبدو لمن لم يدرك لحظات هذا البوح أنه تعقيد دلالي لا طائل تحته ، في حين أنه من التلقائية والعفوية والطبع ، والأمثلة على ذلك كثيرة في شعره ، منها قوله :
وَلِهَت فأظلم كل شيء دونها وأنار منها كل شيء مظلم
فقد تألف البيت من ألفاظ لها معان بسيطة لا تحتاج إلى تأويل كبير إذا نظر إليها واحدة بعد أخرى ، لكنها عندما نظمت في هذا السياق تركب منها معنى يكاد يبدو معقدا ينافي قاعدة الوضوح ، فهو يصف حال الجازعة عليه ، فقال بأنها اعتراها الوله ، فأظلم ما بينها وبينه بسبب ما ناله من الجزع لما أصابها من الوله ، سرعان ما تبدد الظلام واتضح ما كان مستترا عنه وهو حبها إياه ، وهذا معنى قد يعبر عنه بالوضوح وفق العمود الشعري ، غير أنه يمكن التعبير عنه بشيء من الإثارة والإيحاء مع بعض التعقيد ، وهذا أسلوب أبي تمام في التعبير ، وهو شاذ بالقياس إلى عمود الشعر .
تجاوز عيار اللفظ :
تصرف أبو تمام تصرفا كبيرا في ألفاظه ،وتحرر في استعمالها تحررا جليا ، فخرج عن القياسات المعروفة أحيانا ، واصطنع الغريب في ألفاظه ، فصدم الذوق السائد ، وعده أصحاب العمود منهم المرزوقي شاذ لا يحترم قاعدة عيار اللفظ ، فمن الغريب قوله :
أَهْيس ألْيَس لَجَّاء إلى هِمَم تُغَرِّق الأُسد في آذِيها اللِّيسا
أهيس : سار , سيرا عجلا ، أليس : الشجاع البطل الذي يصمد في الحرب .
فهاتان الكلمتان متوغلتان في الغرابة اللغوية ، مع أنهما أكثر تعبيرا عن المدلول النفسي للشجاعة والصمود الموصوف بهما أبي تمام ، ولذا اختارهما دون غيرهما .
تجاوز عيار المقاربة في التشبيه :
آخذ النقاد أبا تمام على تشبيهاته التي يخرق فيها قاعدة وضوح العلاقة بين طرفي التشبيه ، وقاعدة بروز الوجه الجامع بين المشبه و المشبه به ، ومن الأمثلة على ذلك قوله في مدح أحمد بن المعتصم :
إقدام عمر وفي سماحة حاتم وفي حلم أحنف في ذكاء إيَّاس
فهذا التشبيه لم يعجب النقاد ، لأن أبا تمام مدح الخليفة بمن هم أقل منه شأنا في الهرم الاجتماعي ، فهو خليفة وهم من عامة الناس .
لكن أنصاره قالوا أنه أحسن التشبيه لأنه جعل الخليفة يجمع في شخصه الواحد ما تفرق لدى هذه الجماعة من الصفات الحميدة .
4 . تجاوز عيار الاستعارة :
أكثر أبو تمام من الاستعارة في شعره ، حتى اتهمه النقاد القدامى بفلسفي الكلام والغوص وراء المعاني ، منهم الآمدي الذي قال : أنا أبا تمام يختار من شعر القدماء استعاراته البعيدة ، فيكثر منها استحسانا لها كقوله :
لا تسقني ماء المَلام فإنني صبُّ قد استعذبت ماء بكائي
فهو قد جعل للملام ماء ، وهذا ما رفضه القدماء ، على أنهم يقبلون ماء الشوق لأنه هو الدمع.
وخلاصة القول :
لقد برر أنصار أبي تمام الغموض في شعره نتيجة الكم الهائل من المعارف و الثقافات المختلفة التي شربها ، وأفاض بها على الناس من خلال هذا الشعر العذب ، فلم يرض أن يجري على طبعه ، بل تعمق أحيانا حتى غمضت معانيه على كثير من المعاصرين له ، حتى أنه تحدث عن شعره فقال :
حَدُّها مُغرِّبة في الأرض آنسةً بِكل فَهْم غريب حين تغترب